منظرون يقعون في فخ تعريف الإلغاء وخنق حرية التعبير

توقيع 150 كاتبا ومفكرا على رسالة بشأن العدالة والنقاش المفتوح يثير عصفا ذهنيا.
السبت 2020/07/18
أين تنتهي حرية الكلام

مازال الجدل يتفاقم بين الأوساط الثقافية والمعرفية، فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعي على الرسالة التي حملت توقيع 150 كاتبا ومفكرا من مختلف دول العالم ونشرتها مجلة “هاربر” الأسبوع الماضي. فقد تم وضع مضمون الرسالة تحت التشريح المعرفي والنقدي وكشف التناقضات بين متنها والواقع الذي يشهده العالم.

لندن - يتصاعد الجدل النقدي على ما نشر في الرسالة المفتوحة بشأن “العدالة والنقاش المفتوح” التي وقع عليها 150 كاتبا وسياسيا التي طالبت المحتجين في كل مكان بعدم الانجرار إلى ما وصفته بـ”ثقافة الإلغاء”، ومرد ذلك إلى أهمية الأسماء التي وقعت عليها مثل المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، والكاتبة جي.كي.رولينغ، والروائي سلمان رشدي، والكاتبة مارغريت آتوود وديفيد فروم كاتب الخطابات السابق للرئيس جورج دبليو بوش، وآن ماري سلوتر المسؤولة السابقة بوزارة الخارجية الأميركية.

واعتبر المنتقدون أن غالبية الموقعين على الرسالة كتّاب مكرسون لديهم “منصات أكبر وموارد أكثر من معظم الآخرين” وليسوا معرضين لخطر الصمت أو الإسكات أو الإلغاء، بل إن بعضهم متهم برفع شعار “الحرب تجلب الحرية” الذي أطلقه وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد خلال احتلال العراق.

ووفقا لما جاء في الرسالة التي أشارت إلى زيادة في مجموعة جديدة من المواقف التي تميل إلى إضعاف معايير النقاش المفتوح وتسامح الاختلافات لصالح التوافق الأيديولوجي، أكد الموقعون “بينما نشيد بالتطور الأول، نرفع أصواتنا ضد الثاني”.

من اليسار إلى اليمين

ولفتت الرسالة إلى أن الليبرالية تكتسب قوة في جميع أنحاء العالم إلا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يمثل تهديدا للديمقراطية، لكنها لفتت أيضا إلى أن مقاومة هذا التيار لا ينبغي أن تنجر إلى ممارسات إكراهية متصلبة “يستغلها الديماغوجيون اليمينيون بالفعل”، وأشارت إلى أنه “لا يمكن تحقيق الإدماج الديمقراطي الذي نريده إلا إذا تحدثنا بصراحة ضد المناخ غير المتسامح الذي ساد في جميع الجوانب”.

جوناثان كوك: العديد من الموقعين على الرسالة من المنافقين الذين لم يظهروا التزاما تاما بحرية التعبير في أفعالهم
جوناثان كوك: العديد من الموقعين على الرسالة من المنافقين الذين لم يظهروا التزاما تاما بحرية التعبير في أفعالهم

ونبهت الرسالة إلى رواج “عدم التسامح مع الآراء المتعارضة، واللجوء إلى التشهير العام والنبذ، والميل إلى حل قضايا السياسة المعقدة باليقين الأخلاقي الأعمى. نحن نتمسك بقيمة الكلام المضاد القوي بل والقاسي من جميع الجهات، ولكن من الشائع الآن سماع نداءات من أجل رد انتقامي سريع وشديد”. إلا أن تشريح مضمون الرسالة أثار من النقمة أكثر من الترحيب الأمر الذي دفع بعض الموقعين إلى الانسحاب لاحقا والاعتذار عنها؛ مثل الكاتبة في نيويورك تايمز جنيفر فيني بويلان التي كتبت على حسابها في تويتر “لم أكن أعرف من وقع على تلك الرسالة. اعتقدت أنني كنت أؤيد رسالة ذات معنى جيد… أنا آسفة جدّا”. كما تراجعت المؤرخة كيري غرينيدج وسحبت اسمها وكتبت “لا أؤيد رسالة هاربر”، وبالفعل جرى محو اسمها من الموقعين.

تجمع الرسالة تحالفا غير متوقع من اليساريين والمعتدلين والمحافظين الجدد دفاعا عن حرية التعبير. وعلى الرغم من أن الرسالة لم تعتمد مصطلح ثقافة الإلغاء صراحة إلا أن المقصود واضح في الشكوى من المناخ الثقافي “الخانق” الذي يفرض “التوافق الأيديولوجي” ويضعف “قواعد المناقشة المفتوحة والتعايش مع الاختلافات”.

إلا أن الكاتب جوناثان كوك يرى من السهولة بمكان دعم حجة الرسالة الداعية للتسامح والنقاش الحر والعادل، لكن الحقيقة تكمن في أن العديد من الذين وقعوا هم من المنافقين الذين لم يظهروا التزاما تاما بحرية التعبير في أفعالهم. وتبدو نية الكثيرين منهم عكس هدفهم المعلن: فهم يريدون خنق حرية التعبير، وليس حمايتها. ولفهم ما يحدث بالفعل، نحتاج إلى فحص دوافع الرسالة بدلا من جوهرها. وبدأت ثقافة الإلغاء كتشهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي للأشخاص الذين سُمعوا وهم يقولون أشياء مسيئة، لكن الأمر تطور في الآونة الأخيرة، وأصبحت ثقافة الإلغاء في بعض الأحيان مع طرد الأفراد أو حرمانهم من فرصة التحدث في مكان عام أو نشر أعمالهم.

وتستنكر الرسالة هذا النوع من “الديمقراطية غير الليبرالية”. وقد أشار الموقّعون إلى أنهم يتمسكون بقيمة الخطاب المضاد من جميع الجهات، ولكنهم لا يدعمون “الانتقام السريع والشديد” ردا على التجاوزات المحتملة.

وتثير مجموعة الموقعين التساؤل المرير، فإذا كنا نعيش في عالم أكثر عدالة، فإن بعض هؤلاء مثل ديفيد فروم، كاتب الخطابات السابق للرئيس جورج دبليو بوش، وآن ماري سلوتر، المسؤولة السابقة في وزارة الخارجية الأميركية ينبغي أن يواجهوا المحكمة لتورّطهم في جرائم الحرب ودورهم في دعم احتلال العراق، عوضا عن اعتبارهم أبطالا في الدفاع عن حرية التعبير. وهذا دليل على أن هؤلاء الأفراد المختلفين وقعوا على الرسالة لأسبابهم الخاصة.

وقع نعوم تشومسكي على مضمون الرسالة لأنه كان مدافعا دائما وثابتا عن حرية التعبير. ووقع فروم الذي صاغ مصطلح “محور الشر” الذي علل غزو العراق، وباري وايس وهي كاتبة عمود في صحيفة نيويورك تايمز، لأنهما وجدا أن حياتهما تزداد صعوبة لتاريخهما المرتبط بالدفاع عن الحروب وتدمير البلدان مثل العراق وليبيا، ولم يدفعا أي ثمن عندما تبيّن خطر تحليلاتهما وتنبؤاتهما.

وفي الوقت نفسه، اكتشف المعتدلون مثل إيان بوروما وج.ك.رولينغ مؤلفة سلسلة هاري بوتر صعوبة التنقل في تضاريس سياسات الهوية دون تعثّر.

أخبار مضلّلة

توقيع تشومسكي لا يكفي لقبول مضمون الرسالة
توقيع تشومسكي لا يكفي لقبول مضمون الرسالة

لا تعني حقيقة أن جميع هؤلاء الكتاب والمفكرين مهتمون بنفس القدر بحماية الحق في أن يكون المرء صريحا أو مثيرا للجدل.

ويدافع تشومسكي عن حرية تعبير الجميع، لأنه يفهم أن الأقوياء حريصون على إيجاد مبررات لإسكات أولئك الذين يتحدون قوتهم. فالنخب تحمي حرية التعبير بقدر ما تخدم مصالحها في السيطرة على الرأي العام. وعلى نقيض ذلك، يهتم جل الموقعين بحرية التعبير لمصالحهم الخاصة بقدر ما يسمح لهم بمواصلة الهيمنة على الفضاء العام بآرائهم وهو أمر اعتادوا عليه قبل أن تبدأ وسائل التواصل الاجتماعي في التدقيق في ما يقولون وينشرون.

ويختلف المنتمون إلى التيارات الوسطية واليمينية بادعاءات تزعم بأن أي شخص يتحداهم هو مُروّج “أخبار زائفة” أو من “المتصيدين الروس” وتجسّد تهمة “غير أميركي” ثقافة الإلغاء في أسوإ حالاتها.

ولهذا السبب، ينصح الكاتب جوناثان كوك “كان من الأفضل أن يختار تشومسكي عدم إضافة اسمه، على الرغم من أنه مؤيد للحرية”.

ومن المثير للاهتمام تعريف نسبة كبيرة من الذين وقعوا على الرسالة، بأنهم من المؤيدين المتحمسين لإسرائيل. وكما يعرف منتقدو إسرائيل جيدا، كان مناصرو إسرائيل في طليعة ثقافة الإلغاء قبل صياغة المصطلح.

فعلى مدى عقود، سعى النشطاء الموالون لإسرائيل لإسكات أي شخص يرون أنه ينتقد هذه الدولة الصغيرة التي ترعاها القوى الاستعمارية لزرعها في منطقة غنية بالموارد الطبيعية والنفط بتكلفة باهظة على السكان الفلسطينيين الأصليين.

ولا يشجعنا شيء على الاعتقاد بأن المدافعين المتحمسين عن إسرائيل من بين أولئك الذين وقعوا على الرسالة قد رأوا خطأهم السابق. حيث يعدّ الأمر دليلا على أنهم بدأوا يعانون من تبعات نفس ثقافة الإلغاء التي روجوا لها من قبل. وتشير الأدلة إلى أن بعض من وقعوا على الرسالة كثفوا مساهماتهم الخاصة في ثقافة الإلغاء في ما يتعلق بإسرائيل، بدلا من الطعن فيها. وليس هذا مفاجئا، حيث أصبحت الحاجة إلى مواجهة الانتقادات الموجهة لإسرائيل أكثر إلحاحا عندما أصبحت دولة منبوذة. ورفضت إسرائيل تأييد محادثات السلام مع الفلسطينيين وكثفت جهودها لتحقيق خطط لضم أراض من الضفة الغربية في انتهاك للقانون الدولي.

تسليط الضوء على ثقافة الإلغاء الصغيرة، مع تجاهل ثقافة الإلغاء المدعومة من المؤسسات الكبرى، يشوه فهمنا لما هو مهدد ومن الذي يمتلك القوة

وبدلا من السماح بنشر “خطاب مضاد قوي من جميع الجهات” حول إسرائيل، يُفضل مؤيدوها تقديم معارضيهم في صورة تجعلهم من أعداء حرية التعبير.

ويدافع العديد من أولئك الذين وقعوا على الرسالة عن حقهم في مواصلة السيطرة على الساحة العامة دون مساءلة. حيث أمضت باري وايس سنوات في محاولة طرد الأساتذة المسلمين من جامعة كولومبيا بسبب انتقاداتهم لإسرائيل، قبل أن تحصل على وظيفة في صحيفة وول ستريت جورنال ثم صحيفة نيويورك تايمز. وتحرّكت تحت راية “الحرية الأكاديمية”، مدعية أن الطلاب الموالين لإسرائيل شعروا بالخوف في الفصول الدراسية.

وسبق أن خلص تقرير لاتحاد الحريات المدنية في نيويورك إلى أن وايس تجسّد التهديد الحقيقي للحرية الأكاديمية، وليس الأساتذة. ولم تكن مجرّد شابة طائشة. ففي كتاب نُشر في العام الماضي، أشارت فايس إلى جهودها لتخليص جامعة كولومبيا من هؤلاء الأساتذة كتجربة تكوينية تعتمد عليها إلى اليوم.

غياب الليبرالية

لفهم مدى أهمية ثقافة الإلغاء في رؤية العالم للعديد من هؤلاء الكتاب والمفكرين، ومدى تواطئهم في هذه الثقافة، نذكر حالة جوناثان فريدلاند، كاتب عمود في صحيفة الغارديان البريطانية الذي يُفترض أنه يساري ليبرالي. فعلى الرغم من أنه لم يكن من بين أولئك الذين وقعوا على الرسالة، إلا أنه يشبههم وبطبيعة الحال، دعم الرسالة في مقال نُشر في الغارديان. ويكمن المغزى الرئيسي للرسالة في التظاهر بأن “غياب الليبرالية” هي ظاهرة جديدة، وأن حرية التعبير مهددة، وأن ثقافة الإلغاء انطلقت في اللحظة التي تمت تسميتها فيها. وهذا غير صحيح حسب رأي جوناثان كوك الذي حلل الرسالة في مقال موسع، ويقول “يمكن لأي شخص يزيد عمره عن 35 سنة أن يتذكر زمنا لم تكن فيه لدى الصحف والمواقع الإلكترونية مساحة لبريد القراء، عندما كان عدد الردود قليلا ونادرا، وعندما لم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي يمكن من خلالها تحدي الآخر أو محاسبته”.

وتمكّن الكُتّاب آنذاك وكُتاب الأعمدة، مثل أولئك الذين وقعوا على الرسالة، من الاستطراد في مناجاة فردية كشفوا فيها عن آرائهم دون منح حق الرد. وفي تلك الأيام، لم يلاحظ أحد ثقافة الإلغاء لأن المنصة الإعلامية اقتصرت على أولئك الذين يبثون آراء محدّدة.

ديفيد فروم صاغ خطابات بوش في احتلال العراق ووقع اليوم على رسالة تطالب بحماية حرية التعبير
ديفيد فروم صاغ خطابات بوش في احتلال العراق ووقع اليوم على رسالة تطالب بحماية حرية التعبير

فقبل الثورة الرقمية، إذا عارضت الإجماع الضيق الذي فرضه أصحاب الثروات على وسائل الإعلام المؤسسية، فكل ما يمكنك فعله هو طباعة رسالتك وإرسالها بالبريد إلى حفنة من الأشخاص الذين سمعوا عنك.

تلك كانت ثقافة الإلغاء الحقيقية. والدليل هو أن العديد من هؤلاء الكتاب الغامضين سرعان ما وجدوا أن بإمكانهم جمع عشرات الآلاف من المتابعين دون مساعدة من وسائل الإعلام التقليدية عندما تمكّنوا من الوصول إلى المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي.

ولا يعني كل ذلك إنكار وجود أخبار مزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي أو نفي نشاط المتصيدين الروس. لكن، من المهم التنبيه إلى أن الهدف من الذي يحدث يكمن في إعادة توجيه اهتمامنا تحت أجندة سياسية.

وعلى الرغم من الطريقة التي قُدّمت بها الأخبار المزيفة في وسائل الإعلام الكبرى، إلا أنها أكثر ارتباطا باليمين، وسنجد بسهولة أسوأ الأمثلة على الصفحات الأولى من وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز. وتنافس الأخبار المزيفة على فيسبوك الأكاذيب التي برّرت غزو العراق عام 2003 والتي حرصت النخبة السياسية وأبواقها في وسائل الإعلام على الترويج لها. وأدت هذه الأكاذيب إلى مقتل أكثر من مليون عراقي، وتحويل الملايين الآخرين إلى لاجئين، وتدمير بلد بأكمله،

وتغذية نوع جديد من التطرف الإسلامي الذي نعاني من آثاره إلى اليوم. ونرى الأسوأ في الفترة الحالية مع حجب تدخل الولايات المتحدة في سوريا وفنزويلا أو تبريره، واستمرار سجن جوليان أسانج لفضحه جرائم الحرب.

وعلى أولئك الذين دعموا الرسالة لمجرد رؤية اسم تشومسكي فيها أن يحذروا، فمثلما وفرت “الأخبار الزائفة” ذريعة لغوغل ووسائط التواصل الاجتماعي لتغيير خوارزمياتها لإبعاد اليسار من عمليات البحث، وتماما كما أعيد تعريف “معاداة السامية” لتشويه صورة اليسار، سوف يُستغَل التهديد المفترض لـ”ثقافة الإلغاء” لإسكات اليسار.

ويتوقع غالبية المنتقدين للرسالة أن تشومسكي سيقتنع لاحقا أن الرسالة فشلت بسبب هوية الأشخاص الآخرين الذين وقعوا عليها، لأن البعض مارس بشكل لا يقبل الجدل ثقافة الإلغاء وهم ينتقدونها اليوم في تلك الرسالة المثيرة للجدل أيضا. لأن تسليط الضوء على ثقافة الإلغاء الصغيرة، مع تجاهل ثقافة الإلغاء الأكبر المدعومة من المؤسسات الكبرى، يشوه فهمنا لما هو مهدد ومن الذي يمتلك القوة.

7