منحوتات من القماش والخيوط للفنانة العراقية سرى مؤيد

“دكّانة” مشروع صغير بحجمٍ صغير بدأ قبل فترة قصيرة في أهم شوارع بغداد الثقافية وهو شارع المتنبي، وفي مساحة تتسع بالكاد إلى بضعة زائرين، بما يشبه الرؤية السريعة لمعروضات شهرية فنية؛ لكنه برؤيا رسالية كبيرة تتخذ من الفن قاعدة له لتنطلق إلى آفاق الجمال برؤية عصرية ومفاهيمية فنية جادّة، وسبق لنا أن نوّهنا عنه منذ لحظته الأولى في انطلاقته الجمالية ورسالته الفنية في استقطاب ملامح التجديد في الفن العراقي الجديد.
سرى مؤيد شابة موهوبة بعيدة عن الأضواء وفي محافظة جنوبية لها طقوس التخفي الاجتماعي، وهذا ما يفاقم تواصلها مع الحياة الفنية والجمالية، وحتى في معرضها الصغير الذي أقامته “دكّانة” لم يكن سفرها إلى بغداد طبيعيا ولا سهلا لتحضر لحظة الافتتاح الأولى، فهي نتاج ظرف خارجي يملي عليها الكثير من القيود وبالتالي عندما ننظر إلى أعمالها الفنية العشرة التي توزعت في صالة العرض لا نعزل مثل ذلك الظرف عمّا تفكر به في محاولة التمرد الطبيعي الذي تُفصح عنه أعمالها الصغيرة التي اكتنزت بطفولة ترى الأشياء بمثل هذه العين السحرية.
وتُبقي على الأثر الاجتماعي قائما كأنما تدينه عبر عيون الطفلة – المرأة بمجموعة فنية صُنعت من القماش والخيوط بحرفية ذكية وإحساس فيه رهافة؛ مثلما فيه جرأة لكشف المستور في الحياة اليومية وفي مناخ اجتماعي ذكوري أبوي وهي تكشف “الداخل” الاجتماعي وخارجه أيضا في ثنائية تقود إحداها إلى الأخرى بطريقة “المنحوتات” لكن باستعمال بقايا القماش والخيوط ونسجها بمهارة حائكة تعرف الطريق إلى فكرتها، وتنوّع من أساليبها التي ستبدو “بسيطة” وطفولية لكنها عميقة بمفاهيميتها الجديدة وجريئة في اجتياز الموانع التي تسبب بها تهميش المرأة العراقية من أعراف عشائرية وتقاليد موروثة في بيئة محكومة بمثل هذا الاستلاب النفسي، لذلك فهذه المنحوتات القماشية والتشكيلات البسيطة تعبّر بطريقتها عن احتجاج واضح للهيمنة الاجتماعية على المرأة، وتقدّم من خلالها شحناتٍ واضحة في مفاهيمية فنية صارخة اجتازت فيها الكثير من التقاليد الفنية السائدة في محاولة أن تُبقي أثرها الشخصي قائما في هذا العرض الصغير.
سرى مؤيد بعمر عشريني مبكر جدا على أن تقول فيه أفكارا كبيرة بهذا الحجم الذي وجدناه في معرضها النحتي- القماشي (أعمال بدون عنوان) وهي من مواليد (1996) لكن رؤيتها للحياة وما فيها من تناقضات كبيرة وتحولات مفاجئة، وما فيها من ضغط أبوي من جهة وما شكلته الحروب من ضغطٍ نفسي كبير على الجميع وما تركته من شروخ روحية من جهة ثانية، أبصرَ فيها الكثير من الجدل وقراءة الواقع بالتفاصيل المفتوحة أمامها، وهي من بيئة معروفة بانغلاقها الأبوي – الذكوري وبالتالي كان عليها أن تقتحم الكثير من الأسوار وتقدّم احتجاجاتها بنبوءات عرّافة صغيرة تمتهن سحر القماش المتبقي والخيوط المتناثرة لتحيك منها أثرا بعد أثر في تناغم فكري لا تحتاج اللون فيه ولا الزيت ولا اللوحة، لكنها كانت تحتاج إلى هذه البقايا من الخياطة، لتعقد معها صلةً فنية بطريقة الفن المفاهيمي الذي يتمرد على اللوحة بشكلها القار، ومن ثم تكون منتجة لأفكارها التي كانت تكبر كلما كانت (حائكة) لأفكارها بشكل جيد وواعٍ، لتقول في معرضها الاستثنائي هذا بأن “أعمالي بمثابة ثورة على ما تتعرض له المرأة اليوم من إجحافٍ وتهميش وتقيد..”.
وأشارت بشكل واضح جدا من أنّ (الحكم العشائري) كان سببا لمثل هذه الثورة الفنية التي أخرجت فيها صرخات احتجاج واستنطقت القماش التالف والخيوط المتروكة لتبدأ ثورة القماش من هذا المعرض الصغير بعشر منحوتات جميلة لا أكثر، في استعادات طفولية لصيقة بها ولصيقة بنا، كما لو تقصّدت أن تحيل الحاضر إلى الماضي الأكثر بساطةً وجمالاً ورهافة حس.