منافسة صحية بين القوى الكبرى تفيد أفريقيا

النموذج الصيني يثير إعجاب الأفارقة لكنه يخيف الغرب.
السبت 2022/08/13
الصين ساهمت في تطوير البنية التحتية في أفريقيا

يشعر الغرب بقلق من تنامي النفوذ الصيني في أفريقيا وتحوله من جانبه الاقتصادي إلى الجانب السياسي، ما يدفع بعض الدول الأفريقية إلى التخلي عن الخيار الديمقراطي. لكن هذا التنافس يصب في النهاية في مصلحة الشعوب الأفريقية.

بكين – يثير تصاعد النفوذ الصيني في القارة الأفريقية مخاوف الغرب، خاصة الولايات المتحدة، من تحول هذا النفوذ من جانبه الاقتصادي إلى الجانب السياسي في عدد من الدول خاصة التي تتبنى النظام الديمقراطي.

ويظهر جليا أن سياسة الغرب في تقديم الدعم السياسي للأنظمة الديمقراطية في أفريقيا لم تنجح في التقليل من النفوذ الصيني، حيث تعول بكين أساسا على دعم الاقتصادات الأفريقية وتطوير البنية التحية للدول الأفريقية من أجل كسب ثقتها.

ويبدو أن النموذج الصيني في تحقيق التنمية والرفاه الاقتصادي، بغض النظر عن طبيعة النظام أكان استبداديا أم ديمقراطيا، يثير إعجاب الأفارقة لكنه يخيف الغرب.

وفي تقرير لـ”فورين بوليسي” يرى الكاتب هوارد دبليو فرينش أن أحد التحذيرات الأكثر شيوعا الصادرة عن واشنطن خلال إدارة باراك أوباما، لما بدأت الولايات المتحدة تتخبط بعد أن أدركت متأخرة تغلغل الصين اقتصاديا منذ فترة طويلة في أفريقيا، يفيد بأن بكين قد تعمل على تصدير نموذجها السياسي إلى القارة.

ونصحت وزيرة خارجية الولايات المتحدة آنذاك هيلاري كلينتون القادة الأفارقة بالحذر مما يوقعون أنفسهم فيه، قائلة إن عليهم تعلم المزيد من الغرب، وانتقدت الصين متهمة إياها بتشجع شركائها الجدد على مناهضة ما يُعتقَد غالبا أنه ديمقراطية على النمط الغربي وتبني أساليب بكين الاستبدادية في الحكم، لاسيما من خلال التحكم في المعلومات والإنترنت.

وكانت الصين في تلك الفترة شديدة الحساسية تجاه هذا النوع من الانتقادات وبذلت جهودا كبيرة لإنكار تورطها في مثل هذه الأمور. وكان موقفها الرسمي في التعامل مع العالم النامي يقر بأن السياسات المحلية في الدول الأخرى مسائل داخلية بحتة لا ينبغي التدخل فيها، على عكس ما يفعله الغرب.

ويقول الكاتب إنه في مقابلة أجراها خلال زيارة إلى زامبيا قبل عقد، أعرب السفير الصيني هناك عن شفقته على نظيره الأميركي لأنه لا يستطيع التباهي بأكثر من مجرد تقديم دعم لتدريب العاملين في الانتخابات، بينما كانت الصين تبني أشياء ملموسة في كل مكان ينظر إليه المرء.

وأكد الكاتب هوارد دبليو فرينش أن هذا الأمر دفعه إلى طرح أحد تلك الأسئلة غير المخطط لها والتي يمكن أن تكون في بعض الأحيان أكثر إنتاجية أثناء المقابلات: بدلا من التمسك بادعاءات عدم التدخل، لماذا لم تتجاوز الصين نهجا تجاه أفريقيا يركز على تأسيس البنية التحتية والشروع في تقديم أنواع أخرى من المساعدة، وتحديدا تحسين قدرة شركائها على الحوكمة الرشيدة؟

وأفاد الكاتب بأنه لم يتمكن من جعل السفير يتجاوز تصريحاته العادية، لكنه رد بالقول “نظرا للقلق الحالي بشأن الصعود الصيني السريع، فإن أي توسع في انخراط بكين في عالم سياسي أكثر انفتاحا من شأنه أن يثير مخاوف غير مرغوب فيها في العديد من الأوساط”.

وقال إنه بات يدرك اليوم أن الدبلوماسي الصيني لم يكن مُهيّأ لتقبّل مثل هذا السؤال من صحافي غربي حسن النيّة.

وأضاف الكاتب “لا أرى تناقضا بين أن يفضّل المرء شخصيا السياسات الديمقراطية على البدائل الاستبدادية ورغبة الصين في توسيع نطاق تفاعلها مع أفريقيا. وتابع “بعد أن عشت في الصين ست سنوات وعملت صحافيا هناك، كان من الواضح لي أن النظام الصيني يتمتع بكفاءة بيروقراطية كبيرة لا يرقى إليها الشك، أي القدرة على تصور سياسات وتنفيذها على درجة من النشاط والانضباط تتجاوز أداء معظم الدول الأفريقية بكثير”.

وأضاف “كان واضحا لي أنه على الرغم من كل حديثه عن بناء القدرات، كان لعالم المساعدة الإنمائية الغربية للقارة سجل متباين في تحقيق النتائج المؤثرة”.

وقال الكاتب “مرّ الكثير منذ تلك المحادثة في عاصمة زامبيا، وبدأت الصين تخرج من الإطار الذي التزمت به وافتتحت مؤخرا مدرسة حزبية سياسية في تنزانيا، تحت رعاية إدارة الاتصال الدولي بالحزب الشيوعي. وستتولّى تدريب السياسيين من الأحزاب الحاكمة الأفريقية الصديقة في مسائل الحكم والتنمية والأيديولوجيا”.

وأضاف “على الرغم من أن هذا لم يكن بالضبط ما تصورته عند طرح سؤالي على السفير قبل عقد من الزمن، إلا أنني أعتبره تطورا إيجابيا على هذا الأساس: إذا كانت الصين والغرب سيتنافسان في ما يسمى بالعالم النامي، فليكن تنافسهما مفتوحا ومبنيا على الأفكار التي تتضمن مُجمل ما يعتقد كل طرف أنه يجب أن يقدمه”.

وقال “لا أقترح هنا أن تشكل الدول الأفريقية كتلا موالية للغرب والشرق، أو تشكل تحالفات حصرية، أو أن تشارك في العسكرة وتنساق إلى الصراع على هذا المنوال؛ إذ كانت الحرب الباردة أكثر تكلفة، ليس بالنسبة إلى أبطالها البارزين الذين يمكن قياس خسائرهم في الغالب بالدولار والروبل المهدرين، وإنما بالنسبة إلى دول ما يسمى بالعالم الثالث، حيث سببت الحروب بالوكالة التي رعتها القوى العظمى الدمار الاقتصادي وعززت الأنظمة الاستبدادية على كلا الجانبين وكلفت أعدادا لا تحصى من الأرواح”.

◙ مليون مهاجر صيني يبنون إمبراطورية جديدة في أفريقيا لتعزيز نفوذ بكين في القارة السمراء
◙ مليون مهاجر صيني يبنون إمبراطورية جديدة في أفريقيا لتعزيز نفوذ بكين في القارة السمراء

ويطالب الكاتب بضرورة ألا تؤدي المنافسة المفتوحة والمباشرة بين الصين والغرب في أفريقيا إلى أي نتائج من هذا القبيل. وقد يُجبر الغرب على اتخاذ موقف أكثر تواضعا طال انتظاره في تعامله مع أفريقيا، بدءا من الاعتراف بأن الأموال التي أنفقها لسنوات تحت العنوان الغامض “بناء القدرات” قد بذّرتها المنظمات غير الحكومية والجمعيات غير الربحية وعدد من المستشارين في واشنطن والعواصم الأوروبية.

ولا يدري الجمهور في البلدان الغنية الذي يستهدفه الخطاب المضلل للسياسيين الذين يشْكُون من تبذير الأموال على البلدان النامية أن كيانات مثل هذه كانت هي المستفيدة الرئيسية من جزء كبير من الأموال المفترض أنها أنفقت على المساعدات الخارجية. وتفضل هذه الصناعة عقودها الخاصة، وغالبا ما تمنح عقودا على أساس شبكات عميقة من المعارف بين الحكومة وخارجها وهم يتهربون إلى حد كبير من التدقيق في أدائهم أو تأثيرهم على المدى الطويل.

وذكر الكاتب أن “المجال الثاني الذي يكون فيه مزيج من المزيد من التدقيق الذاتي الغربي والتشكيك في الرموز الأيديولوجية طويلة الأمد هو القيمة العملية للديمقراطية الانتخابية،لاسيما بالطريقة الرسمية الضحلة التي جرت بها الانتخابات خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة في العديد من البلدان الأفريقية، وغالبا ما يكون ذلك متزامنا مع تحفيز غربي قوي، بما في ذلك العصا والجزرة”.

وأكد أن تآكل الديمقراطية المستمر في الولايات المتحدة، بما في ذلك الحكم الديماغوجي للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وهجوم منكري انتخاب الرئيس الحالي جو بايدن على مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021، والتلاعب في الدوائر الانتخابية للكونغرس في جميع أنحاء البلاد، يضع الولايات المتحدة في موقف لا يجعلها الطرف المناسب لنصح الآخرين. وشهدت أوروبا كذلك ارتفاعا في نزعة الأصولية اليمينية وتراجع الديمقراطية في السنوات الأخيرة.

وتلوح في الأفق أسئلة كبيرة في أفريقيا نفسها.؛ حيث أفسحت الأنظمة الديمقراطية غير الفعالة أو الفاسدة الطريق في العديد من بلدان القارة السمراء للأنظمة العسكرية أو أشكال أخرى من الاستبداد منذ منتصف العقد الماضي. وفي الأماكن الأخرى التي لا تزال فيها الانتخابات شكلية، يتقن القادة منذ فترة طويلة عملية إعادة كتابة الدساتير والقوانين أو إعادة تفسيرها، مثل حدود المدة التي كانت تهدف إلى تعزيز التناوب ومنع السياسيين من التمسك بالسلطة لعقود.

وقوّض الغرب مصداقيته فيما يتعلق بالديمقراطية في أفريقيا من خلال الصمت عندما تتبنى الأنظمة الصديقة في أماكن مثل أوغندا والكوت ديفوار هذه التكتيكات. وفي رواندا حقق زعيم غربي آخر مفضل، هو بول كاغامي، بانتظام فوزا بشبه إجماع دون مواجهة أية عقوبات. وأعلن كاغامي مؤخرا أنه قد يظل في السلطة لمدة 20 سنة أخرى، وعقّب على ذلك بقوله “ليس لدي مشكلة في ذلك”.

ويُعتبر هذا السلوك المعادي للديمقراطية جزءا من مشكلة النموذج الذي ساعد الغرب على الترويج له في أفريقيا. وشهدت الديمقراطيات متعددة الأحزاب في العديد من البلدان الأخرى تطوير الأحزاب السياسية روابط قوية مع مجموعات عرقية معينة، مما زاد من الانقسام الاجتماعي والسياسات الموروثة التي تحركها الغنائم على طول خطوط الهوية.

وحتى في البلدان التي تُعتبر عادة ناجحة نسبيا في تبني انتخابات متعددة الأحزاب مثل غانا أو كينيا، حيث أجريت انتخابات رئاسية هذا الأسبوع، أصبحت الحملات السياسية مدفوعة بالشخصيات وتفتقر إلى المناقشات الجادة حول البدائل السياسية، وغالبا ما يهيمن عليها الأسلوب الأميركي المتمثل في جمع مبالغ ضخمة من المال وإنفاقها، والآثار المدمرة التي قد يتخيلها المرء نتيجة لكل هذا.

وليس من المؤكد أن للغرب الكثير مما يمكن أن يُقدّمه في هذه المجالات، إلا أن من واجبه، بما أنه تبنى الدفاع منذ أمد بعيد عن مبدأ الديمقراطية التعددية في أفريقيا، أن يتعامل مع الدول الأفريقية بشكل أكثر صراحة بشأن هذه القضايا.

كما ينبغي أن يتعامل الغرب مع هذه الدول بجدية أكبر من أجل إيجاد سبل لربط الانتخابات بنواتج الحوكمة الحقيقية، مثل رفع معدلات الالتحاق بالمدارس المهيأة، ودعم المرافق التي يمكن أن توفر الكهرباء وخدمة الإنترنت بأسعار معقولة وموثوقة وخيارات أفضل من النقل العام، من السكك الحديدية إلى الطرق وأنظمة مترو الأنفاق الحضرية، وتحسين الشفافية في موازنات الدولة والمشتريات والعقود، والحد من الفساد العام على جميع المستويات بشكل قابل للقياس.

ولقد حققت الصين نجاحات محلية مبهرة في بعض هذه المجالات، حيث تمكنت من تأسيس البنية التحتية العامة بسرعة فائقة على مستوى العالم خلال الجيلين الماضيين والارتقاء ببيروقراطيتها، إضافة إلى قدرتها على تقديم الخدمات.

وليست هذه حجة مفادها أن البلدان الأفريقية يمكنها أو ينبغي لها أن تحاول تقليد نموذج الصين المتصور الذي يساء فهمه في الكثير من الأحيان. كما أن هذا ليس تأكيدا ساذجا على أن الحكم في الصين يأتي دون فساد خطير أو تأييدا للادعاء الذي يُسمع كثيرا والذي يفيد بأن الأنظمة الاستبدادية يمكنها “إنجاز الأمور” بشكل أكثر فاعلية من الأنظمة الديمقراطية لأنها لا تتباطأ بسبب الإجراءات البرلمانية وتقلبات الرأي العام والانتخابات أو الطعون في المحاكم.

ويؤكد الكاتب أنه وثق في كتابه “القارة الثانية للصين: كيف يبني مليون مهاجر إمبراطورية جديدة في أفريقيا”، ما سمعه من مغتربين صينيين يعيشون في البلدان الأفريقية ويقارنون بيئة الفساد في الدول التي توجهوا إليها بشكل إيجابي مع الفساد الذي يقولون إنهم وقعوا ضحية له في وطنهم.

سياسة الغرب في تقديم الدعم السياسي للأنظمة الديمقراطية في أفريقيا لم تنجح في التقليل من النفوذ الصيني، حيث تعول بكين أساسا على دعم الاقتصادات الأفريقية من أجل كسب ثقتها

ويضيف “إذا كان غياب الضوابط والتوازنات المؤسسية والديمقراطية قد سمح أحيانا للحكومات الاستبدادية مثل الصين بالوصول إلى أهداف سياسية معينة بسرعة مذهلة (بناء نظام سكك حديدية عالي السرعة على مستوى الدولة، على سبيل المثال) فقد ساعد أيضا على إنتاج أخطاء فادحة مازالت البلاد تعاني منها”.

ويمكن للمرء في هذه الفئة الأخيرة أن يحصي أمورا مثل السياسات الصناعية للقفزة العظيمة إلى الأمام في أواخر خمسينات القرن الماضي وارتباطها بالمجاعة، وسياسة الطفل الواحد التي ساعدت على خفض معدلات الخصوبة ولكنها أضرت بالهيكل الديموغرافي في البلاد وخلقت أزمة الشيخوخة اليوم. وقد يدرج البعض الاستجابة القاسية للوباء الذي تسبب في تكاليف اجتماعية واقتصادية باهظة على الصين ضمن هذه القائمة.

ويقول الكاتب “رغم ذلك فإن للصين الكثير الذي يمكن أن تعلّمه للبلدان الأفريقية بشأن أهمية تحديد الأولويات الوطنية وخلق بيروقراطية أكثر قدرة على تنفيذها”.

ووصف المفكر والمحلل الاقتصادي الغاني برايت سيمونز، في مقابلة أجريت معه مؤخرا، البنية التحتية لصنع السياسات العامة في غرب أفريقيا بأنها غير إستراتيجية، وصرّح لـ”فورين بوليسي” بأن الهدف الأساسي للخدمة المدنية في بلاده يبدو وكأنه “تجنب العمل” وليس الأداء.

وإذا كان للصين ما تساهم به في المساعدة على تغيير هذا الوضع من خلال التدريب أو استخدام مقاييس الأداء أو مشاركة رؤى أخرى من تجربتها الخاصة فإن هذا يبدو مجالا محتملا، حيث يمكن أن تقدم مساهمة كبيرة في التنمية الأفريقية.

ويجب على الغرب أن يتذكر حقيقة أن استطلاعات الرأي الموثوقة لا تزال تُظهر أن الأفارقة يؤيدون مؤسساتهم الديمقراطية بدلا من الخوف والرهاب المعتادين اللذين ينتابانهم بشأن الصين. ومن المفترض أن يتضمن ذلك ارتباطا قويا مماثلا بأنظمة المعلومات المفتوحة في مقابل الرقابة ومراقبة الدولة المتطفلة. وفي غضون ذلك، ربما يمكن للمنافسة مع الصين في هذه المنطقة أن تحفز الغرب على إعادة تصور نهجه غير الفعال للمساعدة على تحسين الحكم وبناء القدرات في القارة.

وأبدى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال جولته في العديد من البلدان الأفريقية انفصالا خطابيا صحيا عن ممارسة سابقة تتمثل في إخبار الآخرين بمن يمكنهم ومن لا يمكنهم اعتباره شريكا، وهو نهج كان غير أخلاقي وغير فعال. لكن هذه لا يمكن أن تكون سوى الخطوة الأولى كي تكون إعادة ضبط واشنطن لعلاقاتها مع أفريقيا ناجحة؛ حيث ستضطر الولايات المتحدة وبقية الغرب في عصر التعددية الأكبر في الشؤون العالمية إلى التنافس تنافسا أكثر أخلاقية في دول الجنوب مما كان عليه الحال خلال الحرب الباردة. وسيعني هذا إثبات فاعليتها بشكل لم يسبق له مثيل في مسائل سهلة التحقيق مثل الحوكمة وبناء القدرات، كما في الأمور الأصعب مثل البنية التحتية.

6