ملاحقة بوتين تضع الولايات المتحدة في مأزق كبير

واشنطن - قبل أيام وبناء على طلب كريم خان رئيس الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية أصدر قضاة المحكمة مذكرة اعتقال في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومفوضة حقوق الأطفال الروسية ماريا لفوفا بيلوفا. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تلاحق فيها المحكمة رئيس دولة، لكن الرئيس بوتين هو الشخصية الأبرز التي تصدر المحكمة مذكرة اعتقال بحقها خلال تاريخها الذي يمتد على مدى 22 عاما.
ويقول مارتي فلاكس، مدير مبادرة حقوق الإنسان في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن في تحليل نشره موقع المركز، “إن قضية بوتين ستكون واحدة من أكثر القضايا التي تنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية تعقيدا”. كما يطرح ثلاثة أسئلة حيوية تسلّط الضوء على صدور مذكرة الاعتقال وكيفية تداول القضية وما تعنيه بالنسبة إلى جهود محاسبة القادة الروس عن أفعالهم في أوكرانيا.
ويبدأ فلاكس أسئلته بسؤال عن كيفية حصول المحكمة على الولاية القضائية للتحقيق مع بوتين، ليجيب بأن أوكرانيا وروسيا ليستا عضوين في المحكمة الجنائية الدولية، وهي العضوية التي تمنح المحكمة الولاية القضائية التلقائية للتحقيق في أفعال روسيا أثناء غزو أوكرانيا.
لكن أوكرانيا بعد الاجتياح الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2015، منحت المحكمة الولاية القضائية للتحقيق في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الروسية على الأراضي الأوكرانية. ونتيجة لذلك وبعد مطالبة 39 دولة عضوا في المحكمة بالتحقيق في جرائم الغزو الروسي لأوكرانيا، استطاع رئيس الادعاء كريم خان فتح التحقيق في غضون أسابيع من بداية الغزو في أواخر فبراير 2022.
وخلال العام الماضي جمع خان أكبر فريق تحقيق في تاريخ المحكمة، مع وجود محققين دائمين في أوكرانيا. وزار خان نفسه أوكرانيا عدة مرات. وكان هذا التحقيق الواسع واحدا من عدد قليل من التحقيقات التي أجريت في ظل استمرار الصراع، بفضل دعم غير مسبوق من الحكومة الأوكرانية وتعاون العديد من الحكومات الأوروبية.
أما السؤال الثاني الذي يحاول فلاكس الإجابة عنه فيتعلق بالاتهامات الموجهة إلى بوتين وأسبابها. ويقول “إن بوتين ولفوفا بيلوفا متهمان بارتكاب جريمتي حرب وفقا لاتفاقية روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، بسبب إشرافهما على النقل القسري لعدد من الأطفال الأوكرانيين من الأراضي التي احتلتها روسيا في شرق أوكرانيا إلى روسيا”.
ويتم استخدام نقل أو ترحيل السكان من الأراضي المحتلة أثناء أي صراع دولي مسلح من أجل إضعاف المقاومة الداخلية وتسهيل السيطرة على الأراضي المحتلة، وهذا العمل يعتبر جريمة حرب وفقا للقانون الدولي. كما أن حجم وأهداف عملية الترحيل يمكن أن يحولانها من جريمة حرب إلى جريمة ضد الإنسانية وجريمة إبادة وهي التهمة التي لم توجه إلى بوتين حتى الآن.
ورغم أن التقارير عن عمليات النقل القسري للسكان من المناطق التي تحتلها روسيا في شرق أوكرانيا ظهرت منذ بدايات الحرب، فإن الأشهر الأخيرة شهدت ظهور معلومات مفصلة عن المدى الكامل لهذه العمليات وفئات السكان الأشد تضررا منها.
قضية الرئيس الروسي ستكون واحدة من أكثر القضايا التي تنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية تعقيدا
وفي نوفمبر الماضي نشرت وكالة أسوشيتد برس للأنباء تحقيقا كشف العديد من القصص المفزعة للعائلات التي تضررت من الترحيل، في حين نشرت كلية ييل الأميركية للصحة العامة في 14 فبراير الماضي تقريرا يقدم أدلة موثقة على نقل 6 آلاف طفل على الأقل دون ذويهم إلى روسيا منذ بداية الحرب، حيث يتم التركيز على الأطفال الأيتام أو المنفصلين عن آبائهم، وهو ما يجعل هذا البرنامج مخيفا بالفعل، الأمر الذي جعل الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية يبدأ بهذه الاتهامات.
كما أن من بين أسباب البدء بهذه التهمة في ملاحقة بوتين أن المحكمة الجنائية الدولية تستهدف بشكل أساسي كبار المسؤولين المتورطين في أخطر الجرائم الدولية. في الوقت نفسه تبدو معايير المسؤولية الجنائية الشخصية للمتهم عالية جدا؛ لذلك يرى مارتي فلاكس أنه على الادعاء إثبات تورط المسؤول بشكل شخصي في ارتكاب الجريمة محل الاتهام، كأن يكون قد ارتكبها بنفسه أو أمر بها أو استخدمها أو تجاهل بشكل متعمد ارتكابها من قبل مرؤوسيه المباشرين.
ورغم أنه قد يبدو أن بوتين هو الذي يصدر الأوامر بشأن جرائم الحرب التي ترتكب في أوكرانيا، فإنه يتوجب على الادعاء الربط بين الأشياء المختلفة وتجميعها أمام المحكمة بما يتيح الربط المباشر بين بوتين وتلك الجرائم حتى تتسنى إدانته.
أما السؤال الثالث والأخير الذي يجيب عنه المحلل فهو: وماذا بعد توجيه الاتهام وإصدار مذكرة اعتقال بحق بوتين؟
المدعي العام خان يعمل حاليا على التحقيق في استهداف روسيا للبنية التحتية ومنها محطات الطاقة في أوكرانيا
ويقول فلاكس إن هذه القضية مجرد بداية وإن المحكمة الجنائية الدولية ستوجه المزيد من الاتهامات إلى كبار المسؤولين الروس المدنيين والعسكريين وربما إلى بوتين نفسه مرة أخرى.
وتقول التقارير الإخبارية إن المدعي العام خان يعمل حاليا على التحقيق في استهداف روسيا للبنية التحتية ومنها محطات الطاقة في أوكرانيا.
في الوقت نفسه حدد الادعاء العام في أوكرانيا أكثر من 65 ألف جريمة حرب يقول إن القوات الروسية ارتكبتها. وعدد قليل جدا من الاتهامات سيصل إلى المحكمة الجنائية، في حين ستنظر المحاكم الأوكرانية والأوروبية في المئات وربما الآلاف من هذه الاتهامات خلال السنوات المقبلة.
وهذه مجرد بداية للقضية الحالية ضد بوتين وقد تظل كذلك لبعض الوقت. فالمحكمة الجنائية الدولية لا تحاكم أحدا غيابيا، لذلك تحتاج إلى استسلام بوتين لها أو القبض عليه من جانب أي حكومة متعاونة مع المحكمة لكي تبدأ النظر في القضية؛ ذلك أنها لا تمتلك جهاز شرطة أو قوة لإنفاذ القانون، وإنما تعتمد على السلطات المحلية للدول الأعضاء في تنفيذ قراراتها.
وبالطبع ستواجه الدول الأعضاء في المحكمة ضغوطا قانونية وسياسية لكي تقبض على بوتين إذا زار إحدى هذه الدول، رغم أن سجل تعامل دول العالم مع قرارات المحكمة الدولية، بما في ذلك قرار اعتقال الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير في عام 2009، لا يشير إلى احتمال وجود مثل هذا التعاون، خاصة وأن بوتين بالطبع لن يفكر في زيارة الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا، وهي الدول التي قد تكون أكثر استعدادا لتنفيذ مذكرة الاعتقال.
الادعاء العام في أوكرانيا حدّد أكثر من 65 ألف جريمة حرب يقول إن القوات الروسية ارتكبتها
ولعل من أهم نتائج مذكرة اعتقال الرئيس بوتين زيادة الضغوط على الولايات المتحدة لكي تحدد المساعدة التي يمكنها تقديمها للمحكمة الجنائية الدولية. فالعلاقة بين الولايات المتحدة والمحكمة الدولية منذ إنشائها عام 1998 تتراوح بين التجاهل والعداء، بما في ذلك فرض عقوبات أميركية على رئيس الادعاء السابق في المحكمة وتمرير قانون في الكونغرس الأميركي يتيح استخدام القوة العسكرية لإطلاق سراح أي مواطن أميركي تقبض عليه المحكمة الجنائية الدولية.
لكن الصراع في أوكرانيا غير التوجهات نحو المحكمة داخل الكونغرس؛ ففي أواخر 2022 خفف الكونغرس القوانين التي تحد من تعاون الولايات المتحدة مع المحكمة في حالة أوكرانيا. كما أعلن كل من الجمهوريين والديمقراطيين دعمهم لتحقيقات المحكمة في جرائم الحرب بأوكرانيا.
ويرى المحلل الأميركي أن المفارقة في هذا الأمر تتمثل في أن إدارة الرئيس جو بايدن هي التي تعرقل التعاون، لأن وزارة الدفاع الأميركية ترفض تبادل المعلومات الاستخباراتية بشأن جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا خوفا من أن تمثل سابقة لأي قضايا مستقبلية ضد مواطنين أميركيين. وعندما يجتمع وزراء العدل من مختلف دول العالم في لندن خلال الأسبوع الحالي لإعلان دعم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في أوكرانيا ستتزايد الضغوط على الولايات المتحدة لكي تتخذ قرارا نهائيا في هذا الأمر، وهو ما يعني أن مذكرة اعتقال بوتين وضعت الولايات المتحدة في مأزق كبير.