مقعد في العتمة: النظام الجزائري إذ يولد في قاعة سينما

عملت السلطة على فصل الأفراد ومنع تشكل أي تجمع أو الانتماء إليه، هكذا أحدث منع تشكيل الأحزاب السياسية والنقابات المستقلة وحتى الجمعيات، ثم التضييق عليها في ما بعد.
الجمعة 2018/06/01
السلطة السياسية تتصرف على أساس أن الجزائر قاعة سينما

في نهاية الشهر السابع من سنة 1963، أي بعد عام واحد من الاستقلال، اجتمع تحت رعاية قيادة أركان الجيش التي كان على رأسها هواري بومدين، ثلاثمئة عضو من حزب جبهة التحرير الوطني في قاعة السينما ماجيستيك (قاعة الأطلس الآن) بحي باب الوادي بالجزائر العاصمة، ليكتبوا أوّل دستور للجزائر المستقلة، عُرض هذا الدستور على المجلس الوطني وتمّت المصادقة عليه بعد شهر، وعلى إثر هذه الفضيحة السياسية قَدّم فرحات عبّاس، الرجل المتمرّس في السياسة والذي كان يرأس المجلس الوطني، استقالته مرددا جملته الشهيرة “الدستور ليس بغيا كي يعهر في قاعة سينما!”.

وفي الحادي عشر من سبتمبر اجتمع للمرة الثانية أعضاء جبهة التحرير الوطني في نفس القاعة ليختاروا أحمد بن بلّة مرشحا وحيدا لرئاسة الجمهوريّة، وبعدها بأربعة أيّام أصبح فعليا أوّل رئيس للجمهورية الجزائريّة.

ليس الغريب ربّما أن تكون أهمّ محطّتين في تأسيس أيّ نظام سياسي وهما كتابة الدستور واختيار رئيس للجمهورية قد حدثتا في الجزائر في قاعة سينما! لكنّ الأغرب هو أنّ هذا النظام الذي وُلد في قاعة سينما، لن يبرحها أبدا!

يمكننا، إذا أردنا فهم هذا النظام، أن نتساءل مثلا عن وعي الرجال الذين كوّنوا نواته، بقراءة سيرهم الذاتية والسير التي كُتبت حولهم، غير أنّ هذه الأخيرة تبدو فقيرة وغير علمية في الكثير من الأحيان، متضاربة وشعبية في بعضها الآخر، كما أنّ أيّ قراءة تحاول إخضاع تاريخ هذا النظام الطويل من التململ والأهواء الفردية والتجريبية والتردّد، لنظريات علمية ستبوء ولا شكّ بالفشل، هاهي  ذي إذن مشكلة أساسية أمام تطبيقات العلوم الإنسانية والاجتماعية في بيئة لا تسير حتما وفق قوانين نعرفها أو نستطيع استخلاصها. وإلى أن نجد بدائل عن هذا النظام، فإنّه من الحريّ بنا أن نجد بدائل أخرى لفهمه.

لقد استعار النظام الجزائري كلّ تقنيات السينما كي يحكم، عقب الاستقلال، تسعة ملايين من المشرّدين والمرضى والمهجّرين وضحايا الحرب، الذين كان كفاحهم أشبه بفيلم سينمائي ينتصر في نهايته ذو الحقّ الفقير والضعيف على خصمه الظّالم ذي العدّة والعتاد.

أدخل النظام إذا التسعة ملايين جزائري إلى قاعة سينما كبيرة، لا مانع من أن يكون اسمها هذه المرة “سينما الجزائر”، وبدأ في فرض قوانين العرض:

تنبيه

“إنّ ما يحصل داخل القاعة ليس بالضرورة حقيقيا، ولكن الجمهور مطالب رغم ذلك بتصديق كل شيء والانفعال له”.

العتمة

لقد حرص النظام على زرع العتمات في كلّ شيء، من تاريخ الثورة إلى أبسط تفاصيل تسيير الشأن العام، وقد يكون هذا راجعا إلى ما ورثه مؤسسو الدولة الجزائرية بعد الاستقلال من كفاحهم ضدّ النظام الاستعماري الفرنسي.

لقد ورثوا تحديدا الرغبة في الخروج عن النظام والنزوع إلى العمل السري، وهذا عكس ما تتطلبه الدّولة الحديثة، وإنّه هاهنا، في نقطة الانطلاق هذه، تكمن أحد أسباب فشل الجزائر اليوم.

وفي مقابل هذه العتمة فرض القائمون على العرض، كما هو معمول به، مصدرا واحدا للصوت والصورة “البروباغندا الرسمية”. اختصر المواطنون خلالها إلى مجرّد أوعية فارغة ومواضيع مستقبلية لدعاياتهم، متفرجين ممنوعين من المشاركة ومن التعبير عن آرائهم إلاّ همسا، ولأنّهم يقبعون في الجزء المظلم من الصّالة فإنّهم غير مرئيين (هل تجدر الإشارة هنا إلى أنّنا لم نراكم أبدا دراسات علميّة حول هذا المجتمع وحول تاريخه، إنّه غير مرئي حتّى عبر مجهر علوم الإحصاء والعلوم الإنسانية والاجتماعية)، لهذا كان من السهل تناسيهم أو معاملتهم ككتلة واحدة، غافلين عما قد يحدث داخلها من طفرات، لقد تغيّرت بمرور الوقت هذه الكتلة وعجزوا عن تمييزها أو التعامل معها، وقد بلغ تردّدهم أن حاولوا إدخال بعض العروض الكوميدية، من النّوع الذي لا معنى ولا شكل له.

إنّ العتمة والانقطاع عن العالم بالنسبة للسلطة السياسية في الجزائر هما رهان وجود بدأ يزول مع الانفتاح الذي أجبرَ الجميع على الانضواء تحته، إلا أنّ هناك الكثيرين ممن أخذوا في الارتطام بكل شيء والرفس واللعن جراء العمى الذي أصابهم، ذلك العمى الذي يسببه الضوء الطبيعيّ بعد أن اعتادت الأعين على عتمة السينما!

جزائري وعراقي ومصرية يتقاسمون جائزة سمير قصير لحرية الصحافة

الصوت الحر
الصوت الحر

بيروت - فاز الكاتب الجزائري ميلود يبرير بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة التي يقدمها الاتحاد الأوروبي كل سنة منذ العام 2006. ونال يبرير الطبيب والروائي، الجائزة في فئة مقال الرأي عن مقاله المعنون “مقعد في العتمة: النظام الجزائري إذ يولد في قاعة سينما”. ويعطي مقال ميلود يبرير فكرة عن النظام الجزائري منذ نشأته. وفي فرع الجائزة المخصصة للأفلام الوثائقية فاز العراقي أسعد الزلزلي عن فيلمه “أطفال داعش”، فيما حصلت المصرية أسماء شلبي على الجائزة في فرع التحقيق عن تحقيقها المعنون “نساء الفيوم”. ويحصل كل فائز على جائزة قدرها 10000 يورو. وتزداد شعبية هذه الجائزة سنة بعد أخرى، مع تزايد عدد المرشحين من دول حوض البحر المتوسط والشرق الأوسط والخليج. ويجري كل سنة منح جائزتين، لأفضل مقال رأي ولأفضل تحقيق استقصائي، عالجا مواضيع مرتبطة بدولة القانون وحقوق الإنسان “الحكم الرشيد، محاربة الفساد، حرية الرأي والتعبير…”. وتضم لجنة التحكيم سبعة أعضاء مقررين من دول عربية وأوروبية، ناشطين في مجالي الإعلام والمجتمع المدني، وعضوا مراقبا يمثل الاتحاد الأوروبي. وقامت سفيرة الاتحاد الأوروبي كريستينا لاسن بتسليم الجائزة للفائزين في حفل أقيم أمس في حديقة قصر سرسق في العاصمة بيروت بمشاركة أعضاء لجنة التحكيم ونخبة من الإعلاميين العرب والاجانب. وقالت لاسن “تقع على عاتق هذه الجائزة مسؤولية كبيرة، ألا وهي مناصرة حرية التعبير والإعلام المستقل في عالم يرزح تحت ثقل المعلومات المضلّلة، وفي منطقةٍ ما زالت تشهد تدهورا في مستوى حرية التعبير وحرية الصحافة”.

زمن العرض

بينما تراكم الجزائر تاريخا آخر بعد استقلالها يجدر تأمّله وكتابته والاستفادة من أخطائه الكثيرة، لا تراوح السلطة السياسية والكثير من النخب الثورة التي تبعها الاستقلال، كلحظة تاريخية اكتمل فيها بالنسبة إليها كلّ شيء، التاريخ والوجود والسياسة.

لقد ظلّ المتفرجون في قاعة السينما مجبرين على تناسي زمن وجودهم وتصديق زمن العرض الذي يعتمد مخاطبة العاطفة الفردية والتخويف من ارتداد الماضي، لكنّ أزمنة المتفرجين قد تغيّرت وتغيّر المتفرجون أنفسهم بعد خمسين سنة من الاستقلال، إلا أنّ العرض مازال يحكي بطولات الثورة وانتصارنا على فرنسا “العجوز” وكرهنا لها، في حين كان يجدر بنا أن نتساءل عن انتصارات فرنسا في الجزائر بعد استقلالها، تلك الانتصارات التي كانت تجنيها بينما نحن محتجزون في قاعة السينما منشغلين بالحبّ والكراهيّة؟

أحيانا، يتوقّف رأس المرء عن التفكير وعن التأمّل، وحتّى عن تصحيح الصّور التي تقع مقلوبة على جدار قرنيّتيه فيصدّق ما يرى. يرى أحيانا من بين ما يرى، أنّ فرنسا هي التي استقلت عن الجزائر، وأنّ الفرنسيين يبدون سعداء جدا لأنّهم تخلصوا من ظلم الجزائريين ومن استعمارهم وقهرهم الطويل لهم، حتّى يكاد يصدّق ما يرى!

العزلة

مقعد لكلّ متفرّج وسط العتمة، هكذا عملت السلطة على فصل الأفراد ومنع تشكّل أيّ تجمّع أو الانتماء إليه، هكذا أحدث منع تشكيل الأحزاب السياسية والنقابات المستقلة وحتّى الجمعيات، ثمّ التضييق عليها في ما بعد ومحاربتها وتفكيكها من الداخل، فقرا حقيقيا في الحياة العامّة وفي تشكيل مجتمع مدني متماسك (ظلّ الجزائريون يستخرجون تصاريح للخروج من الجزائر لسنوات طويلة بعد الاستقلال، وكان الأجانب ولا يزالون يحصلون على تأشيرات الدخول إليها بصعوبة).

إنّ العتمة وما صاحبها من سياسات، جعلا “المتفرجين” يعيشون عزلة غير عادية وفشلا في التواصل وتكوين روابط اجتماعية مدنية حتّى على مستوى صغير على شكل جمعيات محليّة فعّالة. كما أنّ التعتيم والرقابة والعزلة جعلت الفرد فقيرا من حيث بعض تجاربه الذاتية وتمثلاته التي تتطلّب حدا أدنى من المشاركة مع الآخر، أستطيع أن أتحدّث هنا بشكل خاص عن تجربة الجسد وتمثّله، وعن المسافات التي تفصلنا عن أجسادنا، إنّها تعيش أيضا عزلتها.

من أجل حرية الصحافة
من أجل حرية الصحافة

الكثيرون حاروا في تصنيف النظام الجزائري، فهو ليس نظاما اشتراكيا أو رأسماليا، منفتحا أو منغلقا، دكتاتوريا دكتاتورية مطلقة أو جزئية، إنه ببساطة كل هذا ولا شيء منه، إنه مجرد نظام سينمائي

إنّ إحدى النتائج التي حصلنا عليها بعد خمسين سنة من إقامتنا في قاعة السينما هذه، هي الجزائري المنقطع عن محيطه والمنفصل عن سلطته السياسيّة بل المعادي لها، الكائن المتشظّي والمعزول الذي يولد برأس مال من المرارة والتشاؤم. ​

الكثير من الشواهد تدلّ على أنّ السلطة السياسية تتصرّف على أساس أن الجزائر قاعة سينما كبيرة، وبدل أن تغيِّر على الأقل العرض، فإنها أحدثت مؤخرا بعض التحسينات فقط، كإضافة لغة أخرى “الأمازيغية” لدبلجة محتواه، فانصرف النّاس إلى مناقشة الدبلجة الجديدة وتركوا العرض القديم.

إنّ هذا لا يدع لنا شكا في تصنيف النظام الجزائري الذي حار الكثيرون في تصنيفه، فهو ليس نظاما اشتراكيا أو رأسماليا، منفتحا أو منغلقا، دكتاتوريا دكتاتوريّة مطلقة أو جزئية، إنّه ببساطة كلّ هذا ولا شيء منه، إنّه مجرّد نظام سينمائي!

7