مقترحات لإبهار الناس أم لإبهار السيسي

الإجراءات التي يتم تبنيها تأتي من مقترحات لا تخلو من عشوائية في القرار بما يفضي إلى لفظها عند اصطدامها بواقع لا يستطيع استيعاب عملية تطبيقها فيه.
الجمعة 2022/01/21
مرحلة فارقة من تاريخ مصر

تزايد الاتجاه نحو الإسراف في تقديم مقترحات تبدو إيجابية في مجالات مختلفة بمصر. لم تعد هناك جهة علمية محددة تقوم بذلك أو مؤسسة متخصصة تستوعب ما يصلها، أو قناة يمكنها أن تتلقى ما تجود به قريحة البعض. الكل يقترح ويفتي ويزبد فيما يعنيه ولا يعنيه من دون قياس مدى الحاجة إلى ما يتم طرحه من أفكار جادة.

المشكلة أن بعض ما يقدم تهتم به الحكومة وتتعامل معه بجدية نادرة، وربما يدخل حيز التنفيذ بلا روية لمجرد خداع الناس أو محاولة إبهار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأن هناك حراكا في المجتمع وتفاعلا مع طموحاته من قبل جهات عديدة بغرض تحسين أوضاع المواطنين ودعم النظام الحاكم في ترسيخ أقدامه.

هذا برلماني يقترح معاقبة من يفشل في الانتحار بمبالغ مالية باهظة، وتلك مؤسسة ترى ضرورة منع التصوير في الشوارع بالموبايل، وهذه وزارة مهمة تريد اختصار سنوات تنفيذ بعض المشروعات التنموية إلى نصف فترتها الزمنية وتكلفتها المادية.

علاوة على وجود مسؤولين لا يتورعون عن المطالبة بفرض المزيد من الرسوم والضرائب على سيارات المواطنين، وآخرون منهم يطالبون بتحليل مخدرات لكل سائقي سيارات الأجرة، واستثناء الملاكي كأنهم بعيدون عن تعاطي المخدرات بالفطرة.

تطول الحلقات الرمادية وأصبح السباق يصل إلى مستويات متشابكة يصعب حصرها، فكل من يريد التقرب من السلطة يزعم أن لديه فكرة براقة أو اختراعا جذابا.

وصلت فوضى المقترحات حدا أن قامت وزارة التعليم بتطبيق نظام الامتحانات إلكترونيا وشمّرت عن سواعدها دون أن تكون البيئة مهيأة وقامت بإنفاق المليارات من الجنيهات ثم جاءت النتيجة مخيبة فاضطرت إلى عدم تطبيق خطتها بعد أن تأكدت من صعوبة تنفيذها، فلا المدارس تملك بنية تحتية تمكنها من تغذية الأجهزة الإلكترونية بشبكة إنترنت جيدة، ولا غالبية الطلبة يجيدون استخدام هذه الأجهزة.

صمّت وزارة التعليم أذنيها عن كل الانتقادات التي وجّهت إليها بالحق أو بالباطل، وتعاملت مع من رفعوا صوتهم عاليا على أنهم ضد التطوير، وفي أحيان أخرى يريدون تخريب خطة الرئيس في بناء أجيال واعدة، ودخلت المهاترات حدا مؤسفا عاندت فيه الوزارة ورفضت كل الاجتهادات المناهضة لخطتها والتي تريد تصويب مساراتها، مع أنه كان من الواضح أن أصحاب الخطة يحرثون في البحر.

تجاوزت فضيحة الفشل وزارة التعليم والحكومة وكادت تسيء إلى النظام الحاكم الذي وثق في ما يقدم إليه من معلومات وخطط بشأن تطوير التعليم والوعود حول تحسين مستوى الخريجين في المستقبل، والتي لن تحرز نجاحا بالمرة طالما أن المقترحات تطبق دون توافر الدراسة الكافية لها، وهو ما يؤدي غالبا إلى التراجع عن الكثير من التصورات التي تحولت إلى سياسات وممارسات اعتباطية.

حافظت الدولة المصرية على كيانها وسط العواصف التي مرت بها المنطقة في السنوات الماضية بعد أن امتلكت خططا عميقة فوّتت الفرصة على انزلاقها في ثورات واحتجاجات على غرار دول أخرى مجاورة، وتحتاج إلى تطوير هذه الأدوات

يمكن أن تكون وفرة المقترحات عملية نافعة وتوحي بالرغبة في التطوير إذا تمت دراستها بروية وإتقان، ويمكن أن تكون سلبية إذا جاءت لتحقيق أهداف شخصية أو دغدغة مشاعر الناس والإيحاء بأن الحكومة والمسؤولين فيها يريدون فقط أن يسيروا بالسرعة ذاتها التي يمضي بها الرئيس، في محاولة لتقويض فارق السرعات معه.

بدلا من أن تؤدي الطموحات الكبيرة للسيسي إلى إحداث نقلة متقدمة في مصر وشحذ الهمم والطاقات الحقيقية قد تخلق طبقة طفيلية يعمل المنتمون إليها على تقديم مقترحات في ظاهرها تتناسب مع خطته الاستراتيجية وفي جوهرها تضر بها، فتصرفات البعض من المحسوبين على النظام لا ترقى إلى ما يصبو إليه الرئيس.

تعيش مصر مرحلة جديدة من الانفتاح الاقتصادي في ظل الوفرة في المشروعات القومية والرغبة العارمة لتعويض الإخفاقات السابقة، ما منح مسألة الكثافة في المقترحات دينامية كبيرة لم تصطحب معها تمحيصا يكفي لفرز النافع منها والضار، وهي الزاوية المطلوب معالجتها كي لا يتم تبني تصورات على عجل ثم انتكاستها.

هناك أفكار شرعت الحكومة والأجهزة المحلية في تطبيقها ثم جرى التراجع عنها بعد أن اكتشف عدم تحقيق الجدوى المرجوة منها عاجل أو آجلا، فالزحمة في الأفكار تؤدي إلى التشويش في بعض الأوقات، وعدم القدرة على تحديد الأولويات يقود إلى ارتباك يؤثر على نجاحات ملموسة تحققت في الآونة الأخيرة.

تحتاج مصر إلى منظومة راسخة للعمل ووضع الخطط وآخر ما تحتاجه هو الاستعجال، فما يدور في مؤسسات متباينة ويشي بأنه حراك ويصب في صالح المجتمع لا تطمئن إليه بعض التقديرات العلمية، فالكثير من الإجراءات التي يتم تبنيها تأتي من مقترحات لا تخلو من عشوائية في القرار، بما يفضي إلى لفظها عند اصطدامها بواقع لا يستطيع استيعاب عملية تطبيقها فيه.

نجت مصر في الخروج من مصير قاتم كان ينتظرها، وقطعت شوطا مهما في توفير الأمن والاستقرار السياسي والقوة العسكرية، وحققت طفرات اقتصادية ملحوظة، لكن ينقصها ضبط الدفة كي تكتمل أركان قوتها الداخلية والخارجية، الأمر الذي لا تتناسب معه بعض المقترحات التي تقدم من حين إلى آخر بلا ضابط أو رابط، وأبرزها الدعوة إلى الانزواء وعدم الاعتداد بما يجري في الإقليم المحيط بها.

حافظت الدولة المصرية على كيانها وسط العواصف التي مرت بها المنطقة في السنوات الماضية بعد أن امتلكت خططا عميقة فوّتت الفرصة على انزلاقها في ثورات واحتجاجات على غرار دول أخرى مجاورة، وتحتاج إلى تطوير هذه الأدوات.

حان الوقت لتكشف قيادتها عن دور يتناسب مع الجغرافيا السياسية الفريدة، وهو ما لا تصلح معه مقترحات عشوائية يقدمها البعض بنوايا حسنة أو سيئة تحصر دورها في نطاق محدود، فقد تجاوزت مصر أصعب العقبات وهي في حاجة إلى رؤية خارجية بعيدة.

لا تصلح مع هذه النوعية من الرؤى مفردات العامة ومقترحات الدهماء الرامية إلى إبهار الناس أو خداع الرئيس، فمن يقومون بوضع هذه الخطط من أفضل العقول، وعلى أجهزة الدولة الدعوة إلى عقد مائدة مستديرة والدخول في مناقشات مستفيضة لرسم خارطة سياسية للتصورات المقبلة وقطع الطريق على من يعتقدون أن مقترحاتهم كفيلة وحدها بأن تسهم في تجاوز العقبات الراهنة.

قد تتحمل المقترحات الداخلية التجريب وتستوعب حصيلة الخطأ، غير أن الوضع يختلف عند التفكير في القضايا الخارجية ذات الأهمية الحيوية، فلا تصلح معها مجازفة ولا يمكنها أن تقدم على مغامرة غير محسوبة، حيث تمر مصر بمرحلة فارقة ويمكن أن تستثمر الأجواء الحالية بالمنطقة لتكون الرقم القادر على ضبط التوازنات المختلة.

8