مقبرة السلام.. قدسية تراثية شيعية حولت النجف إلى دار للموتى

الاثنين 2016/08/29
قدسية مقبرة النجف في التراث الشيعي جعلتها أكثر مقابر العالم اتساعا وازدحاما

النجف (العراق) - تعد مقبرة النَّجف حيث مرقد الإمام علي المقبرة المركزية للشيعة ليس في العراق فقط بل في الدول المجاورة أيضا. قدسيتها عند سواد الشيعة ارتبطت بكرامة الأرض على أنهم في حماية علي بن أبي طالب من الحساب في الآخرة. مما جعل مساحتها تتسع (خاصة في ظل الحروب التي يعيشها العراق) لتزحف على حساب أحياء المدينة وسكانها أمام صمت رجال الدين ورجال الدولة خشية ردة فعل الشيعة الرافضة للمساس بمقدساتهم.

وقال جهاد أبوسيبي مؤرخ المقبرة إن عدد الموتى الذين يدفنون يوميا في المقبرة ارتفع إلى ما بين 150 و200 فرد بعد أن اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية العراق عام 2014. وكان العدد في السابق يتراوح بين 80 و120 حالة.

وفي الكثير من الأحيان يزور أفراد الفصائل الشيعية ضريح الإمام علي ذا القبة الذهبية قبل التوجه إلى جبهات القتال لمحاربة مقاتلي الدولة الإسلامية ويطلبون أن يدفنوا في وادي السلام إذا ما لقوا حتفهم مكافأة لهم على تضحيتهم.

ولمقبرة النَّجف، أو مقبرة السَّلام، حضور قوي في التراث الشيعي، على أن دفينها لا يتعرض للعذاب ولا الحساب، وهو رأي عدد من المغالين وليس رأيا عاما، هذا فضلا عن قضية شفاعة علي بن أبي طالب وكرامة التربة القريبة منه، وقيل بدأ الدفن في النجف من العهد البويهي، حيث دفن في مرقد علي سلاطين آل بويه وأمراء الدولة الهمدانية وغيرهم من الحُكام الشيعة في المنطقة.

وفي الرواية الشيعية أن آدم ونوح دفنا عند علي بن أبي طالب بالنجف، حتى أن الزائر يقول في قراءة الزيارة "السلام عليك وعلى ضجيعك" والمقصود هنا آدم ونوح، على أن سفينة نوح رست عند الجودي في الكوفة، والكوفة لا تبعد عن النجف سوى عشرة كيلومترات.

الدفن بدأ في النجف من العهد البويهي، حيث دفن في مرقد علي سلاطين آل بويه وأمراء الدولة الهمدانية

في عام 1911 أصدر أحد رجال الدين المتنورين فتوى تحريم نقل الجنائز، بعد أن صار الهنود والإيرانيون ينقلون جنائز موتاهم عبر مقاولين للنقل لدفنها في مقبرة السَّلام، ويتم النقل بعد شهور من الوفاة، وكثيراً ما تسبب ذلك في نقل الأمراض وفساد البيئة، لهذا أصدر هبة الدين الشهرستاني تلك الفتوى، لكنها جوبهت برد فعل عنيف، حتى اضطر إلى ترك النجف لنحو سنتين، وقد نُشرت الفتوى في مجلته “مجلة العلم” الصادرة في النجف (منذ 1910).

كان سبب الغضب اقتصاديا بالدرجة الأولى ثم يأتي السبب الديني، لأن نقل الجنائز ودفنها وزيارات ذوي الأموات المتكررة تدير عجلة اقتصاد المدينة، إلى جانب تأكيد الحظوة الدينية للمدينة.

وتعتبر مقبرة النجف التي عُرفت بالسلام كاسم من أسماء الجنة، من أكبر مقابر العالم، فعلى مدى قرون يدفن فيها موتى الشيعة، فاتسعت اتساعاً أخذ يأكل صحراء النجف ويتمدد على أحيائها، فمن يزور النجف يرى المقبرة تحيط بها. وبما أنها مقر الحوزة الدينية، ويدرس فيها شيعة من كل أنحاء العالم، قال شاعرها المغترب ببلاد الشام أحمد الصافي النجفي، واصفاً بدقة ثنائية النجف، كمقبرة كبرى ومدرسة دينية كبرى أيضاً “واردات بلادي جنائز/ وصادرات بلادي عمائم".

يُذكر أنه في الفترة الأخيرة جرى الحديث عن مضايقة المقبرة لمدينة النجف بمفعول المعارك والعمليات الانتحارية بالحسينيات والاغتيالات، والكل يتجه بقتلاه إلى مقبرة وادي السلام، فإلى أي مدى ستتسع؟

أحمد الصافي النجفي: واردات بلادي جنائز *** وصادرات بلادي عمائم

وبحسب التقليد الديني المذهبي، فإن تلك البقعة تعد مقدسة، وأي حديث عن وقف الدفن فيها، من خارج النجف يعتبر خطيراً، وسيواجه بأكثر حدة من مواجهة فتوى الجنائز التي أصدرها الشهرستاني قبل أكثر من مئة عام، مع أن الواقع يحتاج إلى تغيير وأول مَن يجب أن يقوم به علماء الدين أنفسهم.

ليس هناك تعداد لمن دفنوا في هذه البقعة، التي تُعد مباركة، في التقليد الشيعي المتراكم على مدى الأجيال، لكن المعروف أن القبور أخذت تتراكم فوق بعضها، فهناك الملايين من الموتى رسموا فيها، بجانب المقابر الأخرى المنتشرة في أنحاء النجف، أي في بيوتها ومساجدها، فالعديد من الأُسر لها مقابرها الخاصة، ويُدفن فيها الأجداد والأحفاد، وبهذا المعنى أصبحت النجف داراً للموتى.

غير أن هذا المشهد اليوم، من حمل الجنائز التي يعيش عليها الكثيرون، حقق للمدينة مزاجا معاكسا، مزاج المرح والنكتة والتمرد أيضاً، فالنجفي عندما يُصادف جنازة لا يلتفت إليها، لأنها مشهد يومي، بل إن الأولاد ينتظرون الجنائز ويذهبون مسرعين إلى الدفانين يأخذون منهم “البشارة”، أي بشارة الرزق.

إن روح النكتة والمرح لدى النجفي طبعته على تفهم تلك الحياة، وقاوم فيها الحزن والاكتئاب والرهبة من الموت، مقابل ذلك ظهر عدد كبير من الشعراء في النجف، فموسوعة "شعراء الغري" التي نشرت بثلاثة عشر مجلداً، لم تضم أجيال الشعراء كافة، فقد توقفت عند الخمسينات من القرن الماضي.

إن المقبرة التي ضمنت للنجف اقتصادها ورزقها على مدى قرون، غدت الآن تزحف على أحيائها، ولا بد من التفكير في علاج لهذه الظاهرة، فمئات الملايين من الشيعة في العالم، أو لنقل الملايين من الشيعة العراقيين، لا تكفي موتاهم مقبرة واحدة، ولا يبدو أن فكرة شفاعة علي بن أبي طالب لموتى الشيعة ستحدد بالمكان.

12