مقام الشهيد في الجزائر رمز الصمود وذاكرة الأبطال

"مقام الشهيد" علامة تاريخية على وجود أمة ذات تاريخ وهوية وطنية.
السبت 2025/05/10
إشعاع ثقافي

الجزائر - يروي المعلم الجزائري الذي يضم كلاً من مقام الشهيد والمتحف الوطني للمجاهد اليوم صفحات مشرقة من تاريخ الجزائر، فقد تم تشييده تخليدًا لجهاد الشعب الجزائري ومقاومته ضد الاستعمار الخارجي، ودُشّن رسميًا بتاريخ 5 يوليو 1982 بمناسبة مرور الذكرى الـ20 لاستقلال الجزائر.

وقد تم اختيار هضبة الحامة لبناء هذا المعلم لاعتبارات تاريخية وإستراتيجية، كونها تطل على نواحي مدينة الجزائر، ما جعل الجزائريين في الماضي يتخذونها مرصدًا لمراقبة النشاط الملاحي وسواحل المدينة، كما أنها شهدت معارك رد الحملة الصليبية التي قادها شارلكان على الجزائر بتاريخ 23 أكتوبر 1541.

ويتربع مقام الشهيد على مساحة هكتار واحد، وهو من تصميم الفنان التشكيلي الجزائري بشير يلس (1921 – 2022)، ويتكون من قسمين؛ قسم علوي تم تشييده في شكل ثلاث سعفات، يبلغ طول كل واحدة 97 مترًا، تتعانق عند ارتفاع 45 مترًا في بناء أسطواني ينتهي بقبة، ثم تتفرع لتنتهي عند ارتفاع 92 مترًا. كما تتوسط الفراغ بين السعفات الثلاث منصّة مخصصة للترحم على أرواح الشهداء، وينتصب على الجانب الخلفي لكل سعفة تمثال برونزي ضخم يرمز الأول للمقاومة الشعبية، ويرمز الثاني لجيش التحرير الوطني، في حين يرمز الثالث للجيش الوطني الشعبي. أما القسم السفلي فيضم المتحف الوطني للمجاهد، الذي يتخذ شكل أروقة تحيط بقبة الترحم، خصص معظمها للعرض، والباقي للملاحق الإدارية والخدمية الأخرى.

المتحف يقوم باسترجاع الوثائق والمقتنيات المتحفية وترميمها وحفظها وجمع الشهادات المتعلقة بالحركة الوطنية

ويقول صلاح الدين رانم، المستشار الثقافي بالمتحف الوطني للمجاهد، في تصريح لوكالة الأنباء العمانية “يقوم المتحف بالعديد من المهام، أهمها استرجاع الوثائق والمقتنيات المتحفية، وترميمها، وحفظها، وعرضها، وجمع الشهادات الحية المتعلقة بالحركة الوطنية، وتصنيفها، وحفظها، واستغلالها، وإنجاز برامج البحث في مجالات علم المتاحف والمشاركة في أعمال الباحثين والهيئات الوطنية والأجنبية، وجمع المراجع وتبادل المعلومات العلمية والتقنية، وإصدار المجلات والنشريات والكتب، وإنجاز وسائل الإسناد السمعية والبصرية، والإسهام في إحياء الأعياد والأيام الوطنية ومختلف المناسبات التاريخية، وتنظيم ندوات وملتقيات وأيام دراسية وإقامة معارض دائمة ومتنقلة عبر الوطن وخارجه.”

وتتوسط القبة صخرة مضاءة ترمز إلى تلاحم الشعب الجزائري وصموده، وتذكر بمعاقل المجاهدين الأحرار، يعلوها مكان مضاء خصص لوضع السجل الذهبي للمتحف.

ويرى الخبير في العمران الأستاذ مصطفى معزوز لوكالة الأنباء الجزائرية (واج) أن “مقام الشهيد” إضافة إلى كونه “مرجعًا جماليًا وفنيًا” فهو في وجدان الجزائريين وشعورهم “يمثل مركزًا للقوة وعلامة على وجود أمة بتاريخها وهويتها الوطنية.” وأضاف السيد معزوز أن “كل الدول القوية تعبر عن فخرها بماضيها ومستقبلها عن طريق معالم تشكل محل إجماع وتوافق اجتماعي، وكذلك مقام الشهيد بالنسبة إلى الجزائر فهو يجسد قبلة معرفية وتعريفية بتضحيات وتطلعات الجزائر نحو المستقبل.”

وقد استغرق إنجاز المقام 323 يومًا، كما أكد السيد معزوز، وهو من تصميم الفنانين المعماريين الجزائري بشير يلس والبولوني ماريان كونيكزي.

ويتردد المجاهد الطاهر حسين على “مقام الشهيد” كلما سنحت الفرصة، كأن يحضر إحدى الندوات التاريخية للمتحف الوطني للمجاهد الذي يقع في المستوى السفلي للهيكل المعماري.

وقال في هذا الصدد إن المقام يعني له “الشيء الكبير” ويستحق من الجميع “كل التقدير والاحترام لأنه يعبر عن استرجاع السيادة على كل شبر من التراب الوطني.”

صرح شامخ
صرح شامخ

ويتذكر عمي الطاهر، عند زيارته مقام الشهيد، طفولته البعيدة قائلًا “استقرت عائلتي بالمنطقة في 1947 وكان المكان عبارة عن غابة كثيفة تطل على الخليج المتوسط، وكانت به بعض البيوت المتواضعة لعائلات جزائرية قبل أن تهدم في منتصف الخمسينات لتشييد ثكنة عسكرية.”

ويشهد مقام الشهيد في مواسم العطل والاستراحات الأسبوعية توافدًا للعائلات والسياح من جهات الوطن الأربع، يدفعهم الفضول والرغبة في رؤية هذا المجسم الأنيق الذي يمنحهم فرصة اكتشاف المركب الثقافي المحيط به.

ويلتقط الكبار والصغار على حد السواء الصور وينشرونها على صفحاتهم الخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما هو حال نسيبة (26 سنة) التي جاءت من قسنطينة رفقة عائلتها لتكتشف “تفاصيل” هذا المعلم الشاهق والقريب من حي بلوزداد التاريخي.

ويتنافس الشباب في المكان ذاته على أخذ أجمل اللقطات ابتداءً من الساحة المقابلة للمقام أو الجلوس على السلالم المؤدية إليه والتي تشبه مدرجات مسرح روماني، قبل أن تستقبلهم منصة تتوسط السعفات الثلاث والتي تضم شعلة الوفاء لأرواح الشهداء.

وترى السيدة فضيلة، وهي أستاذة في مؤسسة تربوية بضواحي العاصمة، أن مقام الشهيد “ليس مجرد هيكل بنائي جامد وإنما بصمة واضحة تعبر عن هوية الشعب،” معتبرة أنه من واجب كل جزائري الاعتزاز بهذا المعلم والحفاظ عليه والترويج له بشتى الوسائل.

ويمكن الوصول إلى موقع مقام الشهيد عبر عدة أحياء مجاورة سواء من المدينة أو بلوزداد أو المرادية أو القبة، ناهيك عن تمتعه بشبكة مواصلات تسهل الوصول إليه عبر الحافلات أو سيارات الأجرة أو خط التلفيريك، فكلها تؤدي صعودًا نحو هذا المقام الذي يقع في إقليم بلدية المدنية التي استمدت اسمها من الإخوة الشهداء مداني، وهم من أبناء هذا الحي الشعبي العتيق الذي انتفض ضد السياسة الاستعمارية وخرج أبناؤه في مظاهرات 11 ديسمبر 1960 التي شكلت منعطفًا حاسمًا في مسيرة ثورة أول نوفمبر 1954.

16