مقاطعة نجامينا.. تحصين جديد ضد اختراق الدوحة للمجال الأفريقي

شكّل قرار الحكومة التشادية، الأربعاء 23 أغسطس 2017، إغلاق سفارة قطر لديها وسحب بقية بعثتها الدبلوماسية في الدوحة خطوة تصعيدية جديدة باتجاه تقليص النفوذ المتنامي للدوحة في منطقة الساحل والصحراء.
وجاء القرار بعد أكثر من شهرين ونصف من استدعاء نجامينا لسفيرها في الدوحة، ليشكل دعما أفريقيا مضافا لسياسة المقاطعة التي تقودها أربع دول (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) منذ 5 يونيو 2017.
وبينما بررت نجامينا – رسميا – إغلاق سفارة الدوحة باتهام الأخيرة بمحاولة زعزعة استقرارها عن طريق جارتها الشمالية ليبيا، فإن توقيت القرار يعكس في مضامينه ملابسات إقليمية متشابكة تسهم في تفسير السلوك التشادي الأخير تجاه قطر.
لا يمكن إغفال أن القرار جاء بعد أسبوع واحد فقط من اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ونظيره التشادي إدريس ديبي في نجامينا في ختام جولة السيسي الأفريقية التي زار فيها أيضا كل من تنزانيا ورواندا والغابون. وتصدرت أجندة اللقاء قضية مكافحة الإرهاب في المنطقة.
قلق من الجنوب الليبي
يعدّ جنوب ليبيا، الذي يتشابك قبليا مع شمال تشاد عبر قبائل التبو المنتشرة في المنطقتين، ساحة لنشاط تنظيمات المعارضة ضد نظام ديبي. وسعت الدوحة إلى اجتذاب مقاتلي تلك التنظيمات لدعم تحالفات وكلائها المحليين في غرب وجنوب ليبيا في مواجهة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.
برز ذلك الأمر جليا في أبريل الماضي، عندما اعترفت بعض قيادات المعارضة التشادية التي اعتقلها الجيش الليبي بالقتال إلى جانب سرايا الدفاع عن بنغازي (المصنفة إرهابيا من دول المقاطعة)، خاصة إبان معارك الهلال النفطي في مارس الماضي. وفشل المسعى القطري إذ استطاع حفتر مد نفوذ الجيش من الشرق والوسط إلى معظم الجنوب في مايو ويونيو الماضيين.
وتخشى القاهرة من تحوّل الجنوب الليبي، الذي يلامس حدود كل من مصر والسودان وتشاد، إلى منصة نشطة لتدريب وتمويل الإرهابيين وإطلاق عملياتهم ضد غربي مصر، وهو ما تبرز مؤشراته من الحين إلى الآخر في القصف الجوي الذي يقوم به الجيش المصري لسيارات مهربي السلاح القادمين من داخل ليبيا باتجاه الحدود الغربية.
مصر وتشاد تخشيان من تحول الجنوب الليبي، الذي يلامس حدودهما، إلى منصة نشطة لتدريب وتمويل الإرهابيين
ما يعزز توافق القاهرة ونجامينا على تقليص التأثير القطري في ليبيا أن البلدين يدعمان الجيش الوطني الليبي، وصرح إدريس ديبي في مطلع العام الجاري بأن حفتر يمثل حلا للمعضلة الأمنية لهذا البلد. وتتعاظم أهمية ذلك التوافق في الوقت الراهن، في ظل سعي الدوحة إلى استعادة توازنها في الداخل الليبي، كما هو الحال عندما استقبل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في الـ13 من أغسطس الجاري وفدا ليبيا تصدّره بشير القاضي، الآمر العسكري لقوات البنيان المرصوص الموالية لحكومة الوفاق الوطني، في رسالة لم تكشف فقط عن الارتباطات العلنية بين ميليشيات غرب ليبيا والدوحة، وإنما عن سعي قطر إلى تعديل موازين القوى الهشة لحلفائها بعد سيطرة الجيش على معظم شرق وجنوب ليبيا.
لكن، لا تقف أزمة ليبيا وحدها وراء التصعيد التشادي تجاه قطر، بل هناك أبعاد أخرى أكثر اتساعا ترتبط بالدور الأمني الإقليمي لنظام ديبي في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، الأمر الذي يفسر تضمين بيان وزارة خارجية تشاد حول إغلاق سفارة قطر الإشارة إلى دعوة الدوحة لوقف ما يهدد أمن تشاد، فضلا عن أمن بحيرة تشاد والساحل الأفريقي.
تعرّض الدور الأمني الإقليمي لتشاد في المنطقة إلى معارضة قطرية خاصة بعد مشاركة القوات التشادية إلى جانب فرنسا منذ يناير 2013 في مواجهة التمرد الجهادي – الطوارقي في شمال مالي، لا سيما أن الدوحة انخرطت في ديناميكيات هذا الصراع، حتى أنها تعرضت لاتهامات غربية بتمويل جماعات جهادية في مالي (مثل تنظيم التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا في العام 2012)، تحت غطاء المساعدات الإنسانية التي تقدمها جمعية الهلال الأحمر القطري في هذا البلد.
ولأن حدود الساحل والصحراء هشة ومتشابكة من حيث الأزمات، لذا تمدد دور تشاد في مكافحة جماعات الإرهاب في دول بحيرة تشاد التي تضم (النيجر وتشاد والكاميرون ونيجيريا)، لا سيما إثر توسع هجمات جماعة بوكوحرام من شمال شرقي نيجيريا إلى اختراق دواخل المنطقة، وهو ما دفع نجامينا إلى الدخول رسميا، إلى جانب نيجيريا والكاميرون، في الحرب ضد هذه الجماعة في يناير 2015، بل وحشد الجهود الإقليمية في مارس من العام نفسه لتشكيل قوة أفريقية صادق الاتحاد الأفريقي عليها لمواجهة الإرهاب في بحيرة تشاد.
ذلك الاتساع الأمني الإقليمي للجيش التشادي استهدف أمورا عدة مثل الحد من التأثير الاقتصادي لهجمات بوكوحرام، حيث أن اتساعها يهدد بإغلاق الجهتين الحدوديتين (الكاميرون ونيجيريا) اللتين تتنفس عبرهما نجامينا اقتصاديا، لا سيما إذا علمنا أن تشاد دولة حبيسة جغرافيا.
يضاف إلى ذلك، أن منع بوكوحرام من التمدد جغرافيا من نيجيريا باتجاه جنوب ليبيا، كمنطقة تلاق وتمويل للجماعات الإرهابية والمعارضات المسلحة، والجريمة المنظمة في الساحل والصحراء، يجنب النظام التشادي تكرار سيناريو التحالفات القبلية – الجهادية في شمال مالي، والتي وجدت بالأساس مغذياتها تمويليا وتسليحيا من جماعات الطوارق في جنوب ليبيا وشمال النيجر بعد سقوط نظام القذافي.
ما يعزز توافق القاهرة ونجامينا على تقليص التأثير القطري في ليبيا أن البلدين يدعمان الجيش الوطني الليبي
يسهم مثل هذا التشابك الإقليمي أيضا في تفسير تغيّر سياسات نجامينا باتجاه توطيد التعاون مع نظام البشير في الخرطوم لتخفيف تأثيرات أزمة دارفور على الحدود الشرقية لتشاد، كما هو الحال مؤخرا مع زيارة رئيس وزراء تشاد باهامبي ناداكي إلى الخرطوم للقاء البشير في 21 أغسطس الجاري، حيث تصدّرت محادثتهما الأزمة الليبية، والتعاون الأمني الحدودي، وفقا لاتفاق 2009.
هنا، تبدو أزمة ليبيا حاضرة أيضا بتشابكاتها في الساحل والصحراء، حيث أن تمدّد نفوذ الجيش الوطني الليبي إلى جنوب ليبيا يمثّل ورقة ضغط على الخرطوم في أزمة دارفور غربي السودان، في ظل تشابك حركات مسلحة من هذه المنطقة مع الصراع الليبي، بما يضعف نسبيا التوظيف القطري للسودان، كأحد مداخل التأثير في تفاعلات جنوب ليبيا، ويقلل في الوقت نفسه من الضغوطات على نظام تشاد.
استغلال المعارضة
لا تقل العوامل الداخلية لتفسير الخطوة التشادية بإغلاق سفارة الدوحة أهمية عن نظيرتها الإقليمية، حيث يواجه نظام ديبي انتقادات من المعارضة، بعد فوزه بفترة رئاسية خامسة في العام الماضي، منذ صعوده للسلطة، وتصاعدت مؤخرا حدة الأزمة الاقتصادية في البلاد، إثر انخفاض أسعار النفط منذ العام 2014. ويعتمد نظام ديبي على هذا المحور، كأحد مصادر دخله القومي.
وبدا التوظيف القطري للمعارضة التشادية مستندا على توفيره الملاذ والتمويل لبعض قياداتها، حتى أن الأخيرة طالبت بحضور الدوحة كضامن للسلام في أي اتفاقات مع حكومة تشاد منذ العام 2010، بل إن إحدى أكبر فصائل المعارضة (اتحاد قوى المقاومة التشادية) أعلنت استئناف العمل المسلح ضد حكومة نجامينا، عبر القيادي تيمان أرديمي، من الدوحة في العام 2013. وكانت العمليات المسلحة توقفت إثر اتفاق السلام بين السودان وتشاد في العام 2009 واتفاقهما على عدم دعم أيّ من حركات التمرد لدى البلدين.
إلى ذلك، يسعى نظام ديبي عبر دعم دول لمقاطعة إلى اجتذاب استثمارات ومساعدات سعودية وإماراتية تعزز موقفه السياسي الداخلي، فضلا عن نيل دعم القاهرة الأفريقي لدوره الأمني الإقليمي في مواجهة تشابكات الجماعات الإرهابية أو المعارضات السياسية، والتي تنطلق من جنوب ليبيا إلى الساحل والصحراء والعكس.