مغامرات فضائية

الموضوع حقيقة هو استيعاب الرعب من حالة الطيران غير السوية، وتحويله من إعاقة إلى حافز للحياة والكتابة، والتأمل في كنهه بما هو شأن روائي صرف.
الأربعاء 2018/04/18
الوجود المعلق الذي يحول إدراكنا للأشياء

حين قضى الروائي سانت إكزوبيري في سقوط طائرته بالصحراء، سنة 1944، كان يرسم معالم جدل ملغز بين كتابة الرواية وولع التحليق، فصاحب رواية “الأمير الصغير” لم يكن يخفي انتماءه إلى السحاب، الذي ينافس انتماءه للورق؛ ولقد كان من بين قليلين ممن مثلت بالنسبة إليهم كلمة “فضاء” ملجأ دائما، فهو رائد فضاء في الحقيقة والمجاز، بالفعل والقوة، فالفضاء الروائي ليس أكثر قدرة على الإدهاش من الفضاء المعلق بين السماء والأرض، لهذا كان نهايته المأساوية جديرة بأسطورة.

والحق أن سانت إكزوبري لم يكن الوحيد الذي جعلنا نؤمن بأن الرواية طيران بمعنى ما، فعشرات الروائيين، اقترنت لديهم الكتابة بالغثيان وسوء المزاج والخوف من مواجهة الفراغ، والتوجّس الدائم من السقوط، لهذا يتم تشبيه انتهاء المواهب بالوقوع من المرتفعات، حيث تستقر النجوم. يجعلني هذا التشبيه أفكر دوما في حالات كارلوس فوينتس وجورج أمادو ونجيب محفوظ التي تقترن فيها الطيارة بالموت والانمحاء.

لكن الموضوع ليس هو الطيران أو عدمه في الرواية، فنحن مجبرون على التحليق حين نكون بصدد كتابة رواية أو قراءتها، ومرغمين على التحديق من فوق إلى تفاصيل مدهشة في القاع؛ الموضوع حقيقة هو استيعاب الرعب من حالة الطيران غير السوية، وتحويله من إعاقة إلى حافز للحياة والكتابة، والتأمل في كنهه بما هو شأن روائي صرف، فبتعبير بيكاسو “الخوف ليس من الموت وإن من ركوب الطائرة”، لهذا طالما شكلت رحلاتها عند عشرات الروائيين من مالرو إلى ماركيز موضوع تأمل متداع، باعتبار الكتابة تحليقا في مقام مختلف، ووجودا في فضاء مفتوح.

ومثلما أن أصعب شيء في كتابة الروايات هو البداية والنهاية، يشكل الإقلاع والهبوط أشد المراحل قربا من الموت في رحلات الطائرات، لهذا لا أنسى أبدى تلك المقاطع من الروايات التي أرغمت نفسي على قراءتها فوق السحاب، أتذكرها مثلما أتذكر كل شيء عن الوجود في السديم الرخو.

في كتابه المعنون بـ”كيف تكتب الرواية” يخصص غابرييل غارسيا ماركيز أربعة مقالات للحديث عن تجربة الطيران، تحمل العناوين التالية: “لنكن رجالا ونتحدث عن الخوف من الطائرة” و”تدابير علاجية للطيران” و”الحب في الجو” و”طائرة الحسناء الناعمة”، يتحدث فيها عن الوجود المعلق الذي يحول إدراكنا للأشياء.

والظاهر أنه لا يمكننا الخروج بحقائق من تجربة الكاتب الرهابية المحفوفة بالغموض، بقدر ما نخرج بصيغ بلاغية مدهشة تلك التي يتقن حبكها صاحب “مائة يوم من العزلة”، من مثل العبارات التي يفسر فيها اختلاف طعم الوجبات التي تقدم في الطائرات عن تلك التي نتناولها في منازلنا حيث “الفروج، وهو ميت ومشوي، يطير خائفا، وفقاعات الشامبانيا تنطفئ رعبا قبل موعدها، والسلطة تذبل في كآبة”…، من قال إن الطيران شأن غير روائي؟

15