معالجة النفايات.. من عبء بيئي إلى معين اقتصادي لا ينضب

باريس – تتصدّر الدول العربية قائمة الدول الأكثر إنتاجا للنفايات، بمعدّل يقترب من 100 مليون طن سنويا، وذلك لعدّة أسباب بعضها مرتبط بتزايد عدد السكان والتطوّر العمراني والمدني، وبعضها الآخر متعلّق بطريقة تعاطي المؤسّسات الحكومية مع هذا الملف.
وقد فتحت أزمة النفايات التي هزّت لبنان في الأشهر الأخيرة الباب أمام تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة والمفيدة في نفس الوقت، لا في لبنان فقط، بل وفي كامل العالم العربي، وكيف يمكن الاستفادة من هذه الثروة الاقتصادية المهملة وما يحمله هذا القطاع شبه المعدوم في العالم العربي من مزايا توظيفية واستثمارية.
لا تتجاوز معالجة كمية النفايات بسائر أشكالها الصلبة والغازية والمنزلية الـ6 بالمئة، كما أن المكبات المكشوفة وأفران الحرق لا تزالان الوسيلتين المنتشرتين في العالم العربي للتخلص من النفايات. وبحسب شركة الاستشارات، فروست آند سوليفان، تنتج منطقة الخليج وحدها ما يوازي الـ80 طنا من النفايات كل عام.
لكن هذا الوضع يبدو أنه يسير نحو التغير في السنوات القليلة المقبلة بفعل المبادرات الحكومية والمجتمعية الطموحة للتخلص من الآثار الجانبية للفضلات على الصحة والبيئة من جهة، ومحاولات التفكير في تدويرها اقتصاديا وإعادة استغلالها والاستثمار فيها من جهة أخرى.
خطر النفايات
جعل تغير الأوضاع بفضل التجمعات السكانية الكبيرة وتضخم النشاط الصناعي وابتكار مواد صناعية استهلاكية (كرتون، بلاستيك، أصباغ مركبة، منظفات منزلية، وبوليمرات وغيرها)، تدبير النفايات يعرف تغيرات كبيرة، وذلك بفعل ما يتسبب فيه من تهديدات رئيسية على الغطاء النباتي، وازدياد الترسبات الملحية والكيميائية التي تغير من موازين التربة الجيولوجية والعضوية في حال تراكم بقاياها دون معالجة.
وبالرغم من قابلية التحلل والتخمير والتخفيض الطبيعي، فإنها تظل مدة طويلة قبل التحلل، مما يجعل تأثيرها السلبي مضاعفا على البيئة والصحة. وتقدر الإحصائيات العلمية نسبة بقاء منديل ورقي على قيد الحياة 3 أشهر، وجريدة ورقية من 3 إلى 12 شهرا، وعلب المشروبات من الألومنيوم بين 200 و500 عام، ويظل كيس من البلاستيك 150 عاما، فيما تظل بطاقة تلفون حوالي 1000 عام، كما أنه تم اكتشاف زجاجات في أحسن حالاتها وبعد مرور 4000 سنة، لكن الأخطر هو النشاط الإشعاعي لليورانيوم، الذي يفوق الـ4.5 مليون سنة.
مقابل ذلك تشير الدراسات إلى أن إعادة معالجة واستعمال طن واحد من الورق توفر لنا 17 شجرة، و230 ألف لتر ماء و4200 كيلوواط من الكهرباء و4 براميل نفط و2.5 متر مكعب من المطامر، ويقي من 28 كيلو غراما من ملوثات الهواء.
وأشار تقرير صادر عن جامعة الأمم المتحدة المختصة في الأبحاث العلمية إلى أنه بعد خطر النفايات الصلبة والنفايات السائلة والنفايات الخطرة، تطرح النفايات الإلكترونية خطرا مضاعفا. ويصل معدل إنتاج النفايات في العالم العربي إلى 1.8 كلغ في اليوم، ويصل أحيانا في بعض المدن الكبرى إلى 2.2 كلغ في اليوم، وهو من أعلى المعدلات في العالم.
المبادرات التي تطلقها الحكومات، كتلك التي تفرضها الإمارات، ستحدث فرقا ملحوظا في حال تطبيقها في بلدان أخرى
ويمكن التخلص من النفايات بطريقة تدوير المخلفات وإعادة استعمالها للحفاظ على البيئة عن طريق الطمر والحرق في محارق خاصة، وتحويل المواد العضوية إلى أسمدة أو وقود حيوي أو إعادة تصنيعها. وبات من الممكن تحويل النفايات العضوية كالنباتات الميتة والبقايا الحيوانية، وفضلات الحيوانات، ونفايات المطبخ إلى وقود حيوي، يوفر طاقة متجددة.
على مستوى العالم العربي تعتبر دول الخليج الرائدة في مجال إعادة تدوير النفايات والاستفادة منها؛ حيث تشير دراسة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن التجارب الخليجية تمثل نموذجا إقليميا، وتذكر كمثال مطمر النفايات في الصجعة، وهو عبارة عن منشأة هائلة تستقبل كل نفايات إمارة الشارقة.
ويصل إلى هذا المطمر يوميا ألف طن من النفايات كل يوم، يتم تدوير ما يقارب الـ67 في المئة منها. وهذه النسبة تزداد بسرعة يوما بعد يوم وستقارب قريبا النسبة التي حققتها دولة السويد الرائدة في مجال إعادة التدوير في العالم، والتي بلغت 99 في المئة تقريبا من إجمالي النفايات المنزلية، وفق الدراسة الصادرة نهاية 2015.
ويذكر ذات المصدر أن هذه المنشآت صارت مرغوبة أكثر فأكثر، فقد تم إطلاق مشاريع تحويل النفايات إلى طاقة في كل من الشارقة وأبوظبي؛ حيث يجري العمل في الشارقة على بناء منشأة قادرة على إنتاج 86 ميغاواطا من الطاقة بحلول سنة 2016. وفي إمارة أبوظبي ستبنى منشأة قادرة على إنتاج 100 ميغاواط من الطاقة، يفترض بدء تشغيلها سنة 2017.
كلما تحسن المستوى المعيشي تزايدت نسبة الاستهلاك، ما يفسر أسباب الزيادة في معدل إنتاج النفايات
وتبدو التجربة الإماراتية مثالا يحتذى في بقية الدول العربية حيث ما زالت جهود تدبير النفايات متوسطة الحجم، وخطوات الحكومات بطيئة في إطلاق برامج إصلاحية توازن بين إنشاء مكبات عصرية وإدارة رشيدة، مقابل ازدياد مطّرد في كمية النفايات.
من ذلك، وصلت كمية النفايات الصلبة في الجزائر إلى 12 مليون طن في 2015، وفي المغرب بلغت أكثر من 5 ملايين طن، وفي تونس وصلت كمية النفايات المنزلية المنتجة سنويا إلى نحو 2.5 مليون طن، ويتم التصرف بأكثر من ثلثها بالمعالجة والتدوير، وترتفع هذه النسبة في مصر، حيث يبلغ إجمالي المخلفات الصلبة 89 مليون طن سنويا، وفق تقرير صادر عن وزارة البيئة.
ويلاحظ أنه كلما تحسن المستوى المعيشي تزايدت نسبة الاستهلاك، ما يفسر أسباب الزيادة في معدل إنتاج النفايات في الإمارات العربية المتحدة، بما دفع الهيئات الحكومية البيئية ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات المدنية إلى بذل جهود لتوعية المجتمع بأهمية فرز النفايات وإعادة تدويرها، لكن هذا العمل والمجهود الكبير يبقى ناقصا ما لم يصاحبه تغيير في السلوكيات المجتمعية التي لا يزال أغلبها بعيدا عن استيعاب أبعاد وأهداف هذه البرامج، حيث توجد نسبة قليلة من الأسر التي تعتمد أسلوب فرز النفايات ابتداء من المنزل لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وهي تظل من أكبر النسب في العالم العربي.
وعلى سبيل المثال، يتراوح متوسط إنتاج الفرد من النفايات الصلبة المنزلية في بعض المدن في دولة الإمارات العربية المتحـدة التي توجد بها كثافة سكانية عالية وتتمتع بمسـتوى اقتصادي ومعيشي مرتفع نسبيا ما بين 1.9 و2.2 كلغ يوميا، في حين يتراوح متوســط إنــتاج الفرد في بقـية مناطق الدولة ما بين 0.7 و1.2 كلغ يوميا، وتشكل النفايات المنزلية منها حوالي 60 بالمئة، مما يجعل معظمها قابلا للتدوير، وإعادة الاستخدام بطريقة ناجعة ومثمرة في الدورة الاقتصادية.
وتعدّ النفايات البلدية الصلبة، في قطر، ثاني أكبر مولد للنفايات، وهي تنتج أكثر من 2.5 مليون طن من هذه النفايات سنويا، أي ما يعادل 1.6 كلغ يوميا. وكشفت الجهات المعنية في المملكة العربية السعودية عن ارتفاع ملحوظ في كميات النفايات خلال عام 2014 مسجّلة ما يزيد على 12 مليون طن، وفي دولة الكويت 1.2 كلغ يوميا، والبحرين 1.4 كلغ يوميا، والأردن 1 كلغ يوميا.
حرق النفايات تعد الوسيلة المنتشرة في العالم العربي للتخلص من النفايات، كما يجب أن تكون هناك محارق عصرية تحترم المعايير الصارمة للحد من الانبعاثات السامة
وانفجرت أزمة النفايات في لبنان منذ الصيف الماضي حين قام السكان القاطنون بالقرب من المطمر الأكبر في البلاد بإقفاله. ورفضت البلديات المحلية استقبال المزيد من النفايات، وبدأ مجلس الوزراء بالتفكير في تصديرها إلى الخارج، ولكن هذه الخطة فشلت، فيما يتجدّد غضب اللبنانين.
وتشير دراسة لمعهد ماساتشوستس، في سياق طرح الأزمة اللبنانية، إلى أن “ما يحتاجه لبنان وغيره من الدول بطيئة التطوّر، قانون خاص بإعادة التدوير، على غرار القانون الذي طرحه البرلمان البحريني في شهر يوليو الماضي، وبمقتضى القانون تصبح عملية إعادة التدوير إلزامية في القطاعين العام والخاص وفي المنازل الخاصة أيضا. ومن شأن إقرار وتطبيق مثل هذا القانون، إحداث تغيير شامل في كيفية مقاربة العالم العربي لمعالجة النفايات، فحملات التوعية وحدها غير كافية أحيانا لفرض تغييرات“.
ومع أن إعادة التدوير عملية أساسية في تقليص حجم النفايات، تعتبر عملية تحويل النفايات إلى وقود طريقة أفضل لتقليص انبعاثات الكربون وجني الأرباح. وبالفعل، يتوقع أن تصل قيمة سوق قطاع تحويل النفايات إلى طاقة إلى 80.6 مليار دولار بحلول سنة 2022. وحتى الآن، بلغ عدد منشآت تحويل النفايات إلى طاقة إلى 2200 منشأة عالميا، ولكن منشأة واحدة فقط موجودة في الشرق الأوسط.
حرق النفايات
يعد حرق النفايات الوسيلة المنتشرة في العالم العربي للتخلص من النفايات. وجود محارق عصرية تحترم المعايير الصارمة للحد من الانبعاثات السامة، وغياب ثقافة التخلص من النفايات والمخلفات بطريقة بيوكيميائية يجعلان حرقها الوسيلة الفورية والمحبذة للتخلص من النفايات بطريقة غير مكلفة.
لكن للأسف، فإن الآثار الصحية والبيئية المترتبة على حرق النفايات الصلبة والنفايات الطبية والصيدلية من دون تعقيم بخاري أو عبر تقنية “دندرو”، تظل ضئيلة ومجهولة على نطاق واسع، فيما تستمر مشكلة الاستهانة بمضاعفات الحرق من طرف الإدارات المختصة والغالبية العظمى من السكان في العالم العربي.
وعملية الإحراق يتخللها خطر انبعاث مادة الديوكسين السامة التي تصنفها منظمة الصحة العالمية ضمن المجموعة القذرة من المواد المركبة كيميائيا التي تسبب السرطان وبإمكانها إحداث تشوهات جينية وإلحاق أضرار بالجهاز المناعي وبالهرمونات واختلال وظيفة الكبد وتتسبب في أمراض جلدية خطيرة.
وتتفق كل التقارير البيئية والصحية على أن حرق النفايات يعد مصدر قلق صحي خاص بفعل أن أكثر الديوكسينات التي يتم إصدارها في الهواء أثناء عملية الحرق ينتهي بها الأمر إلى الترسب على الأعشاب والنباتات والأشجار، وبالتالي تسربها إلى السلسلة الغذائية مما يجعل الإنسان عرضة للتأثر.
هذا في الوقت الذي تظل فيه مخلفات الأنشطة البترولية والصحية والصناعية تسجل ارتفاعا كبيرا. وعلى الدول والمؤسسات المعنية أن تأخذ بعين الاعتبار أنه كلما ازدادت كمية الفضلات المعاد تدويرها أو المحولة إلى طاقة، انخفض العبء على المطامر، وتقلّصت الحاجة إلى الحرق وتحول الفضلات إلى أموال، عوض تشويه جمالية المكان والبيئة وتهديد حياة السكان.
باحث بجامعة السوربون