معاداة السامية تهدد اليهود والاحتلال يهدد اليهودية

حرب غزة تسلط الضوء على المبادئ القانونية الدينية اليهودية مثلما حدث مع الإسلام إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وجرّت المستوطنات المتدينين الصهاينة إلى طريق تبني نزعة التفوق اليهودي ما حولهم إلى تهديد وجودي لليهودية.
القدس - سأل المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري قبل ثلاثة أشهر من هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر الذي غير قواعد اللعبة “تخيل عالما تتخلى فيه اليهودية عن الإرث الروحي والأخلاقي الذي تكدس على مر الأجيال، وتحرق آيتي ‘أحبب قريبك حبّك لنفسك’ و’لا تشته بيت قريبك’. تخيل عالما تصبح فيه ‘اليهودية’ مرادفا للتعصب الديني والعنصرية والقمع الوحشي. هل يمكن لليهودية أن تنجو من مثل هذا الدمار الروحي؟”. ويبدو أن أسوأ كوابيسه تحققت.
ويقول الباحث في شؤون الشرق الأوسط جيمس دورسي إن كابوس هراري بدأ يتحقق عندما عقدِت شراكة بين بنيامين نتنياهو والصهاينة المتدينين المتشددين والمحافظين والقوميين المتطرفين في 2022 لتشكيل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل.
وأصبح الكابوس حقيقة واقعة مع رد إسرائيل على هجوم حماس،وتدمير غزة،وقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء وجرح عشرات الآلاف الآخرين، وجهد إخضاع الفلسطينيين المتهور، وتدمير آثار وجودهم بصفتهم مجموعة منفصلة، وسحق أملهم في تحقيق تطلعاتهم الوطنية.
لكن بذور هذا الكابوس زُرعت قبل عقود مع استيلاء إسرائيل على الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية في حرب 1967 واحتلالها للأراضي الفلسطينية منذ ذلك الحين.
الصهيونية الدينية كافحت لتحديد مشروع يضاهي نجاح الصهيونية العلمانية في إنشاء دولة يهودية وكانت تسوية الأراضي المحتلة التي يعتبرها الصهاينة المتدينون يهودية فرصة لا تتكرر
وأصبح كابوس هراري وأبحاث العلماء في مبادئ الهلاخاه (القانون اليهودي) الإشكالية تكتسب أهمية إضافية مع دفع الصهيونية الدينية المتزايد للمطالبات الإسرائيلية بكامل فلسطين.
وتسلط مزاعم إسرائيل، وسياسات الضفة الغربية، وسلوك حرب غزة لذلك الضوء على المبادئ القانونية الدينية اليهودية مثلما حدث مع الإسلام إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
وكافحت الصهيونية الدينية لعقود لتحديد مشروع يضاهي نجاح الصهيونية العلمانية في إنشاء دولة يهودية. وكانت تسوية الأراضي المحتلة التي يعتبرها الصهاينة المتدينون يهودية فرصة لا تتكرر.
وأصبحت المستوطنات مشروع الصهاينة المتدينين الرئيسي الذي سهله نشر حزب العمل الحاكم للمستوطنات جنوب القدس وفي غور الأردن لأغراض أمنية.
وجرّت المستوطنات الصهاينة المتدينين إلى طريق تبني نزعة التفوق اليهودي مما حولهم إلى تهديد وجودي لليهودية كما نعرفها.
وهذا هو الطريق الذي أوصل الصهيونية الدينية، رغم رفض الأغلبية الصامتة للتطرف الديني الذي تبنته شخصيات مثل مئير كاهانا، الحاخام القومي المتطرف والعنصري المولود في الولايات المتحدة، الذي أدين بتهم الإرهاب وهو المثل الأعلى لوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير.
ويربط هراري التهديد الذي يشكله صعود الصهاينة الدينيين المتطرفين بتدمير البابليين للهيكل اليهودي الأول في 586 قبل الميلاد حين احتلوا القدس وهدم الرومان للهيكل اليهودي الثاني عام 70 بعد الميلاد.
ويعدّ هذا تهديدا وجوديا أكبر من صعود معاداة السامية المتجدد الذي تسارع بسبب سلوك إسرائيل في حرب غزة.
وقال هراري “هل يمكن أن تنجو اليهودية من دمار ثالث؟ ماذا لو كان هذا الدمار الثالث مختلفا؟ ماذا لو نجح المتعصبون هذه المرة في إنشاء دولة مسيانية تدمّر الديمقراطية الإسرائيلية وتضطهد العرب والعلمانيين والنساء والمثليين؟ماذا لو اعتنقت تلك الدولة أيديولوجية عنصرية التفوق اليهودي وتمكنت من تجنب الدمار الاقتصادي والسياسي لبعض الوقت بفضل أسلحتها النووية وصناعاتها السيبرانية؟ سيتوجب على اليهودية حينها التعامل مع نوع غير مسبوق من الدمار الذي سيكون روحيا… وستصبح الأزمة الروحية المستقبلية أكثر استعصاء مع كل يوم يقود فيه الحاخامات والسياسيون الصهاينة المتدينون إسرائيل نحو الدمار الروحي دون مقاومة داخلية جادة”.
وتعدّ مقاومة ما قد تكون الأغلبية الصامتة من اليهود المتدينين المعارضين للصهيونية الدينية المتطرفة المحافظة من طرق تجنب ما يسميه هراري “التدمير الثالث”.
ويجب أن تقترن المقاومة بإصلاح ديني يعالج مبادئ الشريعة اليهودية الإشكالية.
وقال المحلل السياسي الإسرائيلي مناحيم كلاين “طالما كان الشعب اليهودي عرقيا. وهو يؤمن بسيادة مجموعته العرقية على الدول الأخرى. وهذا مفهوم هرمي صارخ، يتفوق بموجبه اليهودي على غير اليهودي. ولكن على مر التاريخ، كان هذا تفوقا يفتقر إلى قوة الدولة وأداة لممارسة السيطرة على غير اليهود”.
ويعدّ كلاين من أمثال هراري والعديد العلماء الذين دققوا في تجليات اليهودية المتشددةالمعاصرة. وهو يسميها المسيانية اليهودية ويصنفها على أنها “يهودية جديدة”.
وجادل كلاين بأن “هذه اليهودية الجديدة لم تتشكل في بيت مدراش (قاعة مخصصة لدراسة التوراة) كاليهودية التقليدية، بل نشأت في إطار نظام إسرائيلي مهيمن عامة والسيطرة على الفلسطينيين خاصة. وتطورت المركزية العرقية من نوع من الوعي الذاتي إلى طريقة عمل، ومن مهمة عالمية إلى قمع واحتلال”.
ويعتبر كلاين أن “المسيانيةاليهودية شهدت تحولا. صور الأدب اليهودي الكلاسيكي ظهور عصر مسياني بعد كارثة أو أزمة كبيرة، كآلام ولادة المسيح، وحرب يأجوج ومأجوج. وهذه العناصر هي جزء من الانتقال المسياني من عالم التاريخ إلى عالم يتجاوز التاريخ”.
وأضاف “لكن المسيانية اليهودية الجديدة في المقابل تبقى نتاج النجاح التاريخي، وتحقيق السيادة اليهودية، وممارسة السلطة على المحيط غير اليهودي”.
ورسم عالم الاجتماع الإسرائيلي غيرشون شافير ما اعتبره تطورا من امتياز يهودي علماني متصور يبرر المطالبة بفلسطين على أساس الدين والعرق إلى مفاهيم التفوق اليهودي المتجذرة في القانون الديني كما بلوره أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية وأنصار الصهيونية الدينية المتشددة.
وأثار الانتقال أسئلة قانونية صعبة للحاخامات والعلماء الصهاينة المتدينين. وفي حين تمنع وصايا الغزو القاسية المدونة في كتاب موسى بن ميمون الذي يعود إلى القرن الثاني عشر عودة الأراضي المحتلة إلى السيادة العربية، يقول شافير إن وضع سكان الأراضي بحاجة إلى تحديد.
وقال شافير “إثرالاحتلال الذي حدث في 1967، صاغ حاخامات صهاينة دينيون بارزون ما أسميه تفسيرا ‘أصوليا’ لوصايا الغزو… وخاصة بناء على مشناه توراة القاسي الذي وضعه موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر. وتوافق الغالبية العظمى على أن الأرض المحتلة لا يمكن إعادتها إلى أيدي العرب، لكنهم يبقون منخرطين في نقاش مطول حول الظروف القديمة التي يعتبر فيها العرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة مستوفين لشروط اعتبارهم ‘غير توشاف’ (أجانب مقيمين) في يهودا والسامرة وغزة”.
ما هي الشروط التي أهلت الفلسطينيين لاعتبارهم “غير توشاف”؟ هل كانوا عبدة أوثان، أم أنهم حفظوا شرائع نوح السبع التي تشكل المبادئ المفروضة على غير اليهود؟ هل على السكان الاعتراف بالتفوق اليهودي؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل من الضروري جعلهم “بائسين وأذِلّاء” وفقا لوصايا موسى بن ميمون، وكيف يمكن فعل ذلك؟ ماذا سيكون مصير السكان إذا لم يكونوا مؤهلين ليكونوا “غير توشاف”، وبالتالي، ليس لهم الحق في البقاء في المكان؟
وتهرب الإسرائيليون من الإجابة على هذه الأسئلة قبل الاستيلاء على الضفة الغربية وغزة والقدس.
وقد زُوّرت فعليا عندما حاولت إسرائيل اكتشاف كيفية التعامل مع أقلية غير يهودية داخل حدودها القانونية.
وتغيرت الرغبة والقدرة على استمرار ذلك الوضع بعد 1967 بسبب ديموغرافية غزو الأراضي التي تكتسي أهمية كبيرة في أنظار القوميين الدينيين.
ولم تعد المراوغة خيارا بعد 1967. ولم يعد باستطاعة الإسرائيليين التهرب من التعامل مع وصية وراثة أرض إسرائيل واستيطانها.
وأطلق الغزو عملية في اليهودية لا تختلف عن تأثير المشاركة السياسية والاجتماعية للقوى الدينية الإسلامية في البحث عن نظام اجتماعي في الأراضي ذات الأغلبية المسلمة يستوعب الإسلام والحداثة معا بنتائج مماثلة.
ولا تختلف الدولة الدينية الهالاخية المتشددة عن مفاهيم الدولة الإسلامية للخلافة، والتفكير السياسي الإسلاموي والجهادي عما تعنيه هذه الخلافة لغالبية السكان والأقليات.
وشملت عملية بناء الدعم لمفاهيم الثيوقراطية اليهودية أو الإسلامية ضمان أن يلعب الدين المسيّس دورا أكثر أهمية في الهوية.
ومثلما حدث مع تنظيم الدولة الإسلامية، شمل التسييس الطموح الإقليمي. وكان هذا يعني في رؤية الصهيونية الدينية المتشددة لدولة يهودية ترتكز على الهلاخاه، سيطرة إسرائيل على أرض إسرائيل القديمة التي لن يكون فيها مكان عادل لغير اليهود.
وتضمن الانتقال من الامتياز إلى السيادة، التأكيد على النصوص الدينية المختلفة. واعتمدت حركة العمال العلمانية واليسار الذي سيطر على إسرائيل في البداية، أسسا دينية في التلمود، المصدر الحاخامي الرئيسي للقانون الديني والعقيدة.
وفي مقابل التناخ أو الكتاب المقدس العبري، لا يركز التلمود على تاريخ الحياة اليهودية في أرض إسرائيل في العصور القديمة. لكن تركيز الكتاب المقدس يجعله أكثر من نص إرشادي للصهاينة المتدينين والقوميين المتطرفين مثل بن غفير ووزير المالية الإسرائيلي الحالي بتسلئيل سموتريتش.
وقال كلاين “لم يكن وجود دولة ذات سيادة وأغلبية يهودية كبيرة ممكنا دون التطهير العرقي الذي حدث خلال حرب 1948 وما بعدها. وانطلق حينها اتخاذ شكل ومضمون جديدين من اليهودية. وقد تسارعت العملية بعد 1967 بإنشاء المستوطنات. وعوّضت أسفار يشوع والقضاة والملوك في الكتب المدرسية كتب الأنبياء الذين بشروا بالعدالة الاجتماعية والنظام الأخلاقي، أي إشعياء وإرميا وعاموس”.
وعلى عكس نقاشات الإسلام عن طبيعة الدولة الإسلامية، تمحورت المعركة اليهودية حول أولوية النصوص في بيئة ركد فيها النقاش القانوني حول القواعد التي تحكم فن الحكم والحرب والسياسات تجاه الأقليات لأكثر من ألف سنة لأنها لم تحمل أهمية لمجتمع لا يسيطر على دولة ولا يمتلك أرضا خاصة به وكان أقلية في حد ذاته.
إقرأ أيضا
وقال كلاين “لا توجد سابقة في التاريخ اليهودي لوجود دولة يهودية تشكل قوة إقليمية وتحكم شعبا آخر. لم يتمتع الشعب اليهودي من قبل بمزيج كهذا من السيادة والقوة والسيطرة التي استغلها لقمع شعب آخر”.
ولم يجد الصهاينة المتدينون سوى القليل لمساعدتهم على التعامل مع التغييرات الهائلة في هيكل الدولة وشرعيتها منذ تدوين موسى بن ميمون للشريعة اليهودية في القرن الثاني عشر.
وشكّل هذا نظرة عالمية لا تبشر بالخير لليهود أو غير اليهود، وبالتأكيد ليس في القرن الحالي. لكن كتاب موسى بن ميمون المؤلف من 14 مجلدا يشكل نقطة الصفر القانونية التي يعتمدها الصهاينة المتدينون.
وعمل موسى بن ميمون على تدوين المفاهيم اليهودية التي أثرت على التفكير القانوني الإسلامي. وبقيت في اليهودية والإسلام رغم أنها لم تعد مناسبة للغرض.
ولم يكن مفهوم الهلاخاه لغير توشاف أو الأجنبي المقيم مختلفا تماما عن مفهوم أهل الذمة، وهو الوضع المحمي ولكن غير المتكافئ في الإسلام المخصص لأهل الكتاب (اليهود والمسيحيين). ولكنه فجأة اكتسب أهمية لم يشهدها منذ ألف عام.
ومن المتوقع أن يدفع الغير توشاف الجزية دون التمتع بحقوق متساوية مثلهم مثل أهل الكتاب.
ولقد دافع موسى بن ميمون على فكرة إخضاع الغير توشاف الذي يجب أن يكون مُذِلا ومُهينا وعدم السماح للمقيمن برفع رؤوسهم ضد إسرائيل أو التمتع بمعاملة تفضيلية.
لكن التفسير الصهيوني الديني الحديث لهذه المبادئ يعني أن الحكومة الإسرائيلية يجب أن تطالب الغير توشاف بالاعتراف بالسيادة اليهودية وإسرائيل كدولة يهودية. ويحرمهم الرفض من الحق في الإقامة على الأرض، وهو مبدأ تسلل إلى السياسات الإسرائيلية.
وقال كلاين”طالما تبقى القومية اليهودية مرتبطة باليهودية كدين وشعب تاريخي، لا يمكن اعتبار المساواة والشراكة بين غير اليهود في السيادة مجرد ظاهرة علمانية تشمل تقسيم السلطة والحكومة”.
وأشار إلى أن الحل قد يمكن في “إيجاد أساس عقائدي وتاريخي يهودي لتقاسم السيادة مع غير اليهود. وينتظر هذا التحدي معارضي التفوق اليهودي”.