مطبات الطريق الثالث كخيار بديل للبرهان وحميدتي

الحديث عن الطريق الثالث، أي تصعيد القوى المدنية لتلعب دور الطرف الذي يقود الحل، أمر في غاية الصعوبة لاعتبارات كثيرة تتعلق بطبيعة السودان، ودور المؤسسة العسكرية المؤثر تاريخيا، وجهل الأطراف الخارجية بواقع البلاد وهو عنصر مهم لفهم فشل مختلف الوساطات.
بدأت بعض التلميحات تشير إلى ضرورة إيجاد مخرج لحل الأزمة السودانية بعيدا عن ثنائية قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وجرى التلويح بورقة القوى المدنية كطريق ثالث يمكن ترفيعه للمساهمة في وقف الحرب، وبدت زيارة قامت بها قيادات في قوى الحرية والتغيير، جناح المجلس المركزي، لعدد من دول الجوار مدخلا لطرح هذا الخيار.
وتقف قوى إقليمية ودولية عاجزة عن التعامل مع الصراع الضاري الذي دخل شهره الرابع، وهي غير قادرة على التعامل معه بطريقة منتجة وتبني وساطة ناجحة أو مبادرة واحدة تقود إلى فرملته تمهيدا لاستئناف عملية سياسية تضع حدا للاستقطاب الحاد الذي يعاني منه السودان داخليا وخارجيا.
أشارت اجتهادات داعمة لفكرة الطريق الثالث وتكليف قوى مدنية بتشكيل حكومة في المنفى إلى أن أصحابها يريدون إلقاء حجر في المياه الراكدة، لأن الحرب مستمرة حتى يُستنزف الطرفان أو يقضي أحدهما على الآخر.
الحديث عن طريق ثالث لحل الأزمة يعد قفزا على تفاصيلها سعي جهات خارجية لتحييد المؤسسة العسكرية
ويبدو الاقتراح جيدا نظريا، لكن في السودان يصعب تطبيقه، لأن جولة القوى المدنية كشفت عن انحيازات لمواقف دول مجاورة ودعم أحد طرفي الصراع بصورة غير معلنة، ما يعيد تكرار أخطاء المرحلة الماضية التي قادت إلى الصراع الراهن.
وتحسب تشكيلة وفد القوى المدنية على فريق الجنرال حميدتي ولها مواقف سلبية من غريمه الجنرال البرهان، كما يصعب اختزال النخبة السياسية في أعضاء الوفد، فهناك من لهم تحفظات على مواقفهم، وثمة جناح مواز، أو بقايا جناح، يطلق عليه قوى الحرية والتغيير، الكتلة الديمقراطية، كانت له مواقف داعمة للجيش وقائده البرهان، ولا أحد يعلم هل لا تزال صامدة أم أدخلت الحرب عليها تغيرات.
ويمثل الحديث عن طريق ثالث لحل الأزمة قفزا على تفاصيلها، ومحاولة جديدة من قبل بعض الجهات الخارجية تأكيد انتهاء الدور السياسي للمؤسسة العسكرية وأن مستقبلها بات خلفها في السودان، أكثر من كونه تسوية واقعية لما يجري من تطورات يصعب الحد من تأثيراتها، فالحرب امتدت لمناطق أبعد من نطاقي الخرطوم ودارفور، ولم تظهر معالم تساعد على وقفها أو إقناع طرفيها بفترة هدنة طويلة.
ويظل الطريق الثالث ضربا من الخيال السياسي في السودان، لأن وقف الحرب مقدّم على تشكيل حكومة في المنفى، وإذا أراد من يقفون خلفه توصيل رسالة بشأن مستقبل البرهان وحميدتي في الحكم، فهم ليسوا في حاجة إلى ذلك بعد أن أُنهكت القوة العسكرية لفريقيهما، وعندما تسكت المدافع لن يستطيع أحدهما فرض سيطرته بالقوة المسلحة.
تمكن الإشارة إلى انحيازات لهذا أو ذاك، لكن يصعب القطع بأنه سيكون لأحدهما دور سياسي بعد أن خرجت الحرب عن نطاق السيطرة والتفاهم والوفاق بينهما بعيدا.
علّمنا السودان أنه بلد المستحيلات في الحرب والسلام، والحالة التي وصل إليها الصراع تقول إنه يدور بين مشروعين متنافرين ومتناقضين ويصعب التعايش بينهما مثل العنقاء والخل الوفي، كدليل على أن الجمع بينهما بعيد المنال.
إذا أجهز أحدهما على الآخر سوف تتكفل الروافد بمنع الوصول لأيّ استقرار يمكن أن تحقق على المدى القريب، فبقايا الفريق المنهزم لن تقتنع بترك السلاح، فانتصار الجيش مثلا يعني أن فلول النظام السابق والحركة الإسلامية سيظهران بكثافة على السطح ويدخلان في معارك متفرقة مع شريحة من المواطنين لفظتهما سابقا، وينزوي ما تبقى من قوات الدعم السريع في الحاضنة الاجتماعية داخل إقليم دارفور.
وإذا انتصر حميدتي ورفاقه، فإن قواته ستمثل نواة للمؤسسة العسكرية، ما يعني إعادة هيكلة الجيش السوداني، وهنا من المتوقع أن يلعب العامل العرقي دورا في تشكيله، بما يغضب ما تبقى من أبنائه، وتدخل ما يسمى بـ”كتائب الظل” واللجان الشعبية المحسوبة على الحركة الإسلامية ومعهما عناصر تكفيرية معارك لن توفر أمنا وسلاما للسودان.
كل فريق يستطيع خلق شبكة أمان خارجية تساعده على مواصلة القتال حتى النصر أو تحسين موقفه الميداني، وهي إشكالية دقيقة يمكن أن تتصاعد مع إعلان بعض الدول عن مواقفها الحقيقية وانحيازاتها تدريجيا، والتي حالت دون القيام بممارسة ضغوط على الطرفين تفضي إلى إلزامهما بوقف إطلاق النار.
لذلك فالحديث عن دور مؤثر للقوى المدنية واعتبارها طريقا ثالثا لتجاوز الأزمة الحالية لا يمثل اجتهادا صائبا، فالأزمة أعمق من اختزالها في جولة أو لقاءات مع مسؤولين كبار ينتمون لدول غربية، فما أخفقت فيه حسابات القوى المدنية وقت الهدوء يصعب إصلاحه وقت الحروب.
لا أعلم القاعدة التي تستند عليها تقارير لوّحت بتشكيل حكومة مدنية، ومدى القدرة التي لدى أصحابها لإقناع الطرفين المتصارعين أو الضغط عليهما لحثهما على القبول بخيار يحمل داخله عوامل تدميره في ظل وجود مجموعة من الألغام تمنع قيادتهما، أو على الأقل أحدهما وهو الجنرال البرهان للموافقة عليه.
ربما يكون الطرح جس نبض لرد فعل بعض الأطراف أو فخا يزيد الحرب اشتعالا ويحرض الجيش والقوى الداعمة له على إخراج أقصى ما في جعبتهم من تدمير.
يظل التفكير في الاحتمالات طويلا، لأن الأوضاع في السودان متشابكة بالصورة التي يصعب معها ترجيح كفة خيار على آخر، فالمبادرات التي تطلق من هنا أو هناك في غالبيتها تحمل عوامل فنائها أو تأتي لردع مبادرات موازية، فما لم يتم تهيئة الأجواء خارجيا لن تتمكن أيّ جهة سودانية أو غير سودانية إيجاد قواسم مشتركة داخليا.
وأدى اهتزاز ثقة شريحة كبيرة من السودانيين بالسياسيين والعسكريين إلى عدم الاقتناع بما يطرح من تسويات، والتشكيك في الخطابات التي يتبناها كل جانب، فالمسافات المتباعدة بين كل فريق لم تجعل هناك مساحة للتعويل عليهما.
يتحمّل كل طرف جانبا كبيرا مما وصلت إليه البلاد من تشويش، حيث انجرفا وراء إغراءات وطموحات وأطماع بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير التي لم تترك لهما قاعدة جيدة يستندان عليها عندما يحين وقت منح الشعب فرصة للاختيار.
ويؤدي التشتت في البحث عن حلول سياسية وعسكرية إلى تشتت آخر داخل الشريحة الصامتة من الشعب السوداني الذي لم يعد واثقا بالخيارات المطروحة عليه، وعلى الرغم من ندرتها وعدم قدرتها للتحرك باتجاه استعادة الأمن والاستقرار، إلا أن قبض جناح في القوى المدنية على دفة الحكومة في هذه الطروف لن يكون مفيدا، فقد يفضي إلى أزمات أشد تعقيدا، ويضاعف من حدة الشد والجذب، فالحكم المدني خيار محوري في السودان، لكن العبرة في آليات الوصول إليه.