مصر والسعودية علاقة إستراتيجية فقدانها يمثل خسارة للطرفين

تفرض التغيرات الجيوسياسية من حين إلى آخر توترا بين مصر والسعودية، تقابله السلطات الرسمية بصمت تام يفتح الباب أمام تأويلات وتحليلات، لكنه صمت يؤكد مدى عمق العلاقات والروابط بين البلدين القادرين على تجاوز الخلافات. فالبلدان يدركان جيدا أن توتر العلاقات بينهما خسارة مشتركة، لكن تجاوز الخلافات لا يمنع ظهور أخرى، فطموحات الطرفين قد تتعارض وقد تحملهما نحو خلافات جديدة.
القاهرة - شعر متابعو العلاقات بين مصر والسعودية الفترة الماضية بملامح توتر يدور في الخفاء بين البلدين، ظهرت تجلياته مع غياب الرياض عن القمة الخماسية التي استضافتها مدينة العلمين الجديدة في أغسطس الماضي بحضور زعماء مصر والإمارات والأردن والعراق والبحرين، بعدها زادت بورصة التكهنات حول وجود خلاف بين الجانبين حال دون حضور وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لهذه القمة.
وبعد زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى القاهرة واللقاء مع الرئيس عبدالفتاح السيسي تبددت الكثير من المخاوف بشأن استمرار التوتر المكتوم. وأكد بيان للرئاسة المصرية، الأحد، أن العلاقات بين القاهرة والرياض “لها خصوصية إستراتيجية لما تمثله من ركيزة لاستقرار المنطقة العربية بأسرها، لاسيما في ضوء الظروف الدقيقة التي تمر بها والتحديات المختلفة التي تواجهها".
يمكن أن تكون هذه الزيارة مقدمة لإزالة ما يمكن تسميته بسحابة صيف سياسية مرت في سماء القاهرة والرياض، حيث نقل الأمير فيصل بن فرحان رسالة شفهية من ولي العهد السعودي إلى الرئيس المصري شددت على "أواصر الأخوة، والروابط التاريخية بين البلدين الشقيقين، وسبل تعزيزها وتطويرها".
وتشير أجواء الترحيب المصري التي أحاطت بالزيارة وما حملته من معان سياسية أن البلدين يتمسكان بالعودة إلى أسس العلاقة الإستراتيجية بينهما، وليسا على استعداد لفقدانها لأيّ سبب، لأنها تمثل خسارة بالغة لطرفين تجمعهما منذ فترة طويلة مجموعة ركائز تمنع تحويل الخلاف في بعض التفاصيل إلى أزمة هيكلية.
ولا أحد يستطيع القطع بالمكونات الحقيقية التي قادت إلى الأزمة في الفترة الماضية، وأبرز ملامحها التي يمكن التعرف عليها تتمثل في بطء تدفق الاستثمارات السعودية في وقت تعاني فيه مصر أزمة اقتصادية خطيرة، حيث رشحت معلومات عقب زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى القاهرة في يونيو الماضي بأن الرياض سوف تضخ استثمارات بقيمة 30 مليار دولار في مصر تعد أحد حبال الإنقاذ السريعة.

وأكدت مصادر مصرية لـ”العرب” أن هذه الخطوة تعثرت بسبب بعض الشروط السعودية لضخ الاستثمارات، وعدم ترحيب القاهرة كثيرا بالتحول الحاصل في طريقة تقديم المساعدات عبر شراء بعض الأصول المصرية وليس منحا بتسهيلات كبيرة، كما كان في السابق.
وأضافت المصادر ذاتها أن معالم الفتور زادت مع الغياب اللافت لولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن قمة العلمين العربية، ثم مع انتقادات وجهتها مواقع مصرية إلى وزير الترفيه السعودي تركي آل الشيخ، بالغ فيها البعض في الهجوم عليه.
وفهمت دوائر سعودية إقامة حفل للمطربة المصرية آمال ماهر (طليقة تركي آل الشيخ) في أغسطس الماضي وبصورة مبالغ في الاحتفاء بها على أنه رسالة ضمنية من القاهرة للضغط على مسؤول سعودي كبير ومقرب من الأمير محمد بن سلمان، وأن الرسالة تعكس غضبا مكتوما بين مصر والسعودية.
جاء الحديث عن ميل القاهرة نحو الدوحة لأجل جذب استثمارات قطرية رسالة أخرى إلى الرياض تفيد بأن مصر لن تقف طويلا على أبواب السعودية انتظارا لضخ استثمارات سخية وأن لديها بدائل وخيارات عديدة يمكنها اللجوء إليها.
وراجت توقعات حول ضخ الدوحة نحو ثلاثين مليار دولار في شكل استثمارات، وبدأ الحديث يتواتر حول حقوق رعاية لشركات قطرية لأندية مصرية، في مقدمتها النادي الأهلي، ليشير إلى أن رأس المال القطري سوف يعود بقوة إلى مصر.
ومع تداول معلومات بشأن زيارة منتظرة لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى القاهرة من المرجّح أن يعلن فيها عن ضخ استثمارات كثيرة في مصر، بدأ متابعون يشعرون أن إتمام هذه الخطوة ينعكس سلبا على علاقة القاهرة بالرياض، وأن المسألة يمكن أن تأخذ منحنى تصاعديا وقد يتحول الخلاف المكتوم إلى انفجار معلوم.
مرت، ولا تزال، العلاقات بين مصر والسعودية بمطبات على مدار العقود الماضية، نجح الطرفان في عدم الوصول بها إلى حد القطيعة الطويلة، حيث يدرك كلاهما أن الدخول في هذه المرحلة يؤدي إلى خسارة مزدوجة، ويمنح منافسين ألداء لهم أجندات خفية في المنطقة فرصة للاستفادة من التوتر.
مكنت التفاهمات بين الرئيس عبدالفتاح السيسي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على مدار السنوات الماضية من عدم الوقوع في مشكلات حادة تستمر وقتا طويلا، وفي المرات النادرة التي تعثرت فيها العلاقات بسبب التباعد النسبي في حرب اليمن والموقف من إيران وتفاصيل الأزمة السورية كانت عمليات الإنقاذ تأتي سريعا ولا يصل الخلاف إلى مستوى اللاعودة، ويتم الاتفاق على احتواء جذور التباين ووقف التدهور المحتمل.
ويغلب الصمت على الخلافات السياسية بين القاهرة والرياض، فلا يوجد متحدث رسمي في أيّ من العاصمتين يمكنه الحديث عن أزمة صراحة أو التلويح بأن هناك امتعاضا ما، لكن تتكفل الكتائب الإلكترونية في مصر والذباب الإلكتروني في السعودية بالتعريف بمعالم الأزمة من خلال طريقة الخطاب الموجه من كل طرف إلى الآخر.
◙ ما يبدو أزمة تلوح في الأفق سيتم تجاوزه اتساقا مع الأبعاد التاريخية للعلاقات والأهمية الإستراتيجية التي تنطوي عليها
وإذا تحدث مسؤول كبير في البلدين بما يعبر عن وجود أزمة مع البلد الآخر يميل دائما إلى الابتعاد عن التصريح، ففي موقف المطربة آمال ماهر تعمد تركي آل الشيخ أن تكون إشاراته خفية وعبر تويتر، ولم يشر إلى مصر أو أجهزتها بسوء مباشر، لكن كانت تلميحاته كافية للتأكد من وجود أزمة بين الرياض والقاهرة، هو جزء منها.
كما يميل الإعلام الرسمي التقليدي في البلدين إلى النأي بنفسه عن الدخول في أزمة ما بين القاهرة والرياض، فيشعر المراقبون له كأن العلاقة تسير على وتير جيدة، ولذلك لم يعد مصدرا وثيقا للتعرف على شكل العلاقات بينهما، لأنه يميل إلى الكتمان.
ويعلم القائمون على الإعلام والمشرفون عليه في البلدين أن ما يبدو أزمة تلوح في الأفق سيتم تجاوزه اتساقا مع الأبعاد التاريخية للعلاقات والأهمية الإستراتيجية التي تنطوي عليها، بما لا يسمح بالتمادي في الخلاف وتحويله إلى عداء.
هذه واحدة من السمات الرئيسية للعلاقات بين مصر والسعودية تحولت إلى كابح يعصمها من الانزلاق إلى منحدر كبير، وفي كل مرة يبدو فيها أن المنحدر قريب يبادر أحد الطرفين بالتحرك للإنقاذ، ما جعل الصعود والهبوط يدور في فلك يمنع الوصول إلى قناعة حيال الحفاظ على متانة صامدة طوال الوقت أو الاقتراب من الفراق.
كانت المنافسة على القيادة الإقليمية تفسر جزءا من التذبذب في العلاقات بين القاهرة والرياض، كما تفسر الخسارة المشتركة جانبا مهما لتوفير عوامل الصد ومنع الانهيار.
ومع التغيرات المتوقعة في المنطقة والمشاريع السياسية المتعارضة يمكن أن تتزايد معالم الخلاف بين القيادتين، وما لم يعتصم كل طرف بالثوابت التي حالت دوما دون خروج الخصام عن أطره التقليدية سوف تتصاعد مخاطر حدوث أزمات في المستقبل، لأن القاعدة التي ارتكزت عليها العلاقات يمكن أن تصاب بخلل أو شلل إذا تصورت القاهرة أنها قادرة على التحكم في طموحات الرياض، أو العكس.