مصر مضطرة إلى سحب عدم اعترافها بحكومة الدبيبة

القاهرة تسعى لتطويق مواقفها المتصلبة ضد حكومة الدبيبة، ومرد هذه المراجعة بداية عمل المبعوث الأممي الجديد إلى ليبيا ونزوله في طرابلس متزامنا مع مؤشرات على تعامل إقليمي ودولي مع بقاء الدبيبة، وهو وضع يقلل من حجم الدور المصري في ملف تعتبره جزءا من أمنها القومي.
أعلن مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا السنغالي عبدالله باتيلي منذ أن وطئت قدماه طرابلس لأول مرة الجمعة أنه سيتواصل مع جميع الأطراف للتوصل إلى حل مستدام وإجراء الانتخابات، ما يعني أن العملية السياسية المتجمدة يمكن أن تتحرك في الفترة المقبلة بما يتطلب تجاوب قوى إقليمية ودولية معنية بالأزمة مع المبعوث الأممي.
ولم تستجب الأمم المتحدة لنداء وزير الخارجية المصري سامح شكري الأسبوع الماضي بتبني موقف واضح من حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها عبدالحميد الدبيبة المنتهية ولايته، وجاء ردها ضمنيا من خلال إرسال مبعوثها إلى ليبيا والتعامل مع الأمر الواقع بالطريقة التي تمكن من تحريك المياه في اتجاه الانتخابات.
وصلت الرسالة إلى القاهرة، وعليها أن تختار بين التمسك بموقفها من عدم الاعتراف بحكومة الدبيبة وتحمل ما ينجم عن ذلك من تداعيات، أو النزول تدريجيا من أعلى الشجرة والتعامل مع التصورات التي يحملها مبعوث الأمم المتحدة، والتي ردت على نداء وزير الخارجية المصري بما يفيد أنها لن تسحب اعترافها بحكومة الدبيبة.

◙ عبدالله باتيلي يواجه صعوبات كبيرة ربما تقود إلى إخفاقه في مهمته السياسية
لن تستطيع القاهرة تحمل رفاهية تهميش الدبيبة الذي تتعامل معه الأمم المتحدة وقطاع كبير في المجتمع الدولي، خوفا من تقويض دورها خلال المرحلة المقبلة التي ستشهد حديثا حول الانتخابات، والمعنية بها مصر بعد استضافتها العديد من اجتماعات اللجنة الدستورية ووضع الضوابط المناسبة لها، ولذلك قد تكون مضطرة إلى سحب عدم اعترافها به حرصا على مركزية دورها.
ومالت المواقف المصرية إلى الانفتاح على جميع القوى الليبية، بمن فيها الإخواني خالد المشري رئيس مجلس الدولة، وساعدتها مرونتها على تذويب الفجوة مع قوى عدة، وجاء موقفها السلبي من الدبيبة مفاجئا فرضته تطمينات تلقتها بانتهاء دوره، وتعبيد الطريق أمام فتحي باشاغا وحكومته التي منحها مجلس النواب الليبي غطاء شرعيا.
ومع أن طريق دخول باشاغا إلى طرابلس صعب للغاية، غير أن القاهرة تمسكت به وكان يمكنها أن تسير على خطوط متوازية كما فعلت من قبل وفي محطات مختلفة، لكنها استعجلت عندما صرحت علنا بأن الدبيبة فقد شرعيته السياسية دون أن تترك لنفسها نافذة للتراجع، وكأنها كانت واثقة من أن سيناريو عزله سوف يصل
إلى منتهاه.
وظهر موقفها بجلاء عبر انسحاب وفدها من اجتماع وزراء خارجية الدول العربية في سبتمبر الماضي عندما صعدت نجلاء المنقوش وزيرة خارجية الدبيبة لإلقاء كلمتها وتسلم رئاسة الدورة الجديدة.
وأوحت الثقة التي تصرفت بها القاهرة في ذلك الوقت أن أيام الدبيبة باتت معدودة، إلا أن التطورات اللاحقة منحته أفضلية للبقاء في منصبه، وحاول أن يضفي دسما على حكومته بالذهاب إلى الأمام وتوقيع مذكرة تفاهم جديدة مع تركيا أكدت أنه يملك حليفا قويا مستعدا لمساعدته في معركة الصمود والتحدي في مواجهة القاهرة.
ردت القاهرة بحزم على هذه الخطوة، وهي تعتقد أن المجتمع الدولي، وعلى رأسه الأمم المتحدة، يمكن أن ينزعج من مذكرة التفاهم بين أنقرة والدبيبة، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن المصرية، وعليها إعادة النظر في موقفها لترسو على شواطئ طرابلس وتستعيد زخمها في الحوارات التي سيرعاها عبدالله باتيلي.
ويواجه باتيلي صعوبات كبيرة ربما تقود إلى إخفاقه في مهمته السياسية، لكن إلى حين أن تتكشف معالم النجاح أو الفشل هناك فترة زمنية سوف يستغرقها العمل للوصول إلى هذه النتيجة يصعب أن تظل مصر بعيدة عن التفاعلات المتلاحقة فيها.

◙ المواقف المصرية مالت إلى الانفتاح على جميع القوى الليبية، بمن فيها الإخواني خالد المشري رئيس مجلس الدولة
واستضافت القاهرة اجتماعا الجمعة بين رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح والمبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند ومعهما مساعدة وزير الخارجية باربرا ليف، بما يشير إلى أنها لا تزال رقما يحظى بجاذبية واشنطن في معادلة ليبيا، وأن مصر لن تتخلى عن دورها بحكم ما تملكه من أرواق متراكمة.
ويؤدي تفعيل هذه الأوراق بعيدا عن التواصل مع حكومة الدبيبة إلى حصر علاقة مصر في شرق ليبيا، ويقلل من فرص تأثيرها في الغرب الذي بذلت جهودا الفترة الماضية لتكون خطوطها مفتوحة على الكثير من قواه، وبالتالي العودة إلى المربع الأول الذي صاحبها فترة طويلة وأرخى بظلال سلبية على علاقتها بكثير من الأطراف الليبية، بل سمح بانكماشها في الشرق ولتمد تركيا نفوذها في الغرب.
يعيد عزوف القاهرة عن التعامل مع الدبيبة بسبب انتهاء شرعيته إلى الأذهان موقفها السلبي من حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، والذي كان قريبا من مصر وأسهمت في توليه لمنصبه، لكن علاقتها به فترت ولم تستجب لمحاولاته للتقارب معها، ما دفعه للاتجاه بقوة نحو تركيا كملاذ آمن له، وهو ما ساعد على تمددها واختراقها الكبير على الساحة الليبية.
وحذرت مصادر مصرية من تكرار سيناريو السراج السابق مع الدبيبة الذي لم تكن ميوله الإيجابية حيال أنقرة خافية على كثيرين، وأن التمادي في مقاطعته سيدفعه كثيرا نحو تركيا، والتي بدأت تظهر على تصرفاتها ملامح مناوشات سياسية مع مصر، ويمكنها توظيف علاقتها القوية بحكومته في مزيد من التمترس والتغول، بما يخصم من الرصيد السياسي والأمني والاقتصادي لمصر في طرابلس.
تحتاج الحكومة المصرية إلى توسيع نطاق الجهود التي تقوم بها في التعامل مع الأزمة لتتمكن من استرداد عافيتها السياسية، فالعزوف أو التركيز على قوى محدودة يقلل من قدرتها على التأثير في وقت تدخل فيه ليبيا مرحلة جديدة من إعادة ترتيب الأوراق.
ويسعى عبدالله باتيلي لوضع لمساته السياسية، على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهه، وأبرزها عدم الحياد عن الأسس والقواعد التي وضعتها السفيرة الأميركية السابقة ستيفاني ويليامز عندما تولت منصب القائمة بأعمال رئاسة البعثة الأممية ثم مستشارة سياسية للأمين العام للأمم المتحدة.
على القاهرة أن تختار بين التمسك بعدم الاعتراف بحكومة الدبيبة، أو التعامل مع التصورات التي يحملها المبعوث الأممي
يصعب أن تتمكن القاهرة من التفاعل بمرونة عالية مع الأزمة وسط تمسكها بعدم شرعية الدبيبة، ما يدفعها للبحث عن صيغة توفر لها خطا للعودة قبل أن تجرفها التطورات نحو طريق لا يمكنّها من الحفاظ على مصالحها الحيوية أو يؤدي بها إلى أن تتحول إلى عنصر معرقل بدلا من دورها السابق في تذليل الكثير من المطبات.
وكشفت المصادر المصرية ذاتها لـ”العرب” أن رحيل سامح شكري المحتمل عن منصبه في وزارة الخارجية عقب انتهاء قمة المناخ في شرم الشيخ في نوفمبر المقبل سوف يكون مدخلا لتعديل الموقف الراهن من الدبيبة، حيث يعد الرجل هو رأس الحربة في الخصومة السياسية مع حكومته.
وسواء رحل شكري أم بقي، باتت القاهرة بحاجة إلى تصويب بعض المسارات في تعاملها مع الأزمة الليبية لأن ما حققته اللجنة الأمنية المسؤولة عن إدارتها من قبل ربما يتراجع ما لم تتمكن من قراءة المشهد على صورته الحقيقية، وهي صورة مليئة بالغموض والالتباسات لا تستقيم معها المواقف الدبلوماسية الحدية.