مصر في مواجهة الحقيقة

كل ما حدث ويمكن أن يحدث يندرج في خانة إعادة تعريف المسميات من وحي تطورات أكدت أن الانفتاح على قوى متباينة خيار حيوي لدول تريد الحفاظ على مصالحها بقطع النظر عن عواطفها.
الخميس 2022/07/28
بانتظار شبكة جديدة من العلاقات

اعتمدت مصر طوال ما يقرب من خمسة عقود على انتظار الدعم المالي والمنح والمساعدات الخارجية التي جاء جزء معتبر منها من الولايات المتحدة ودول الخليج، وكانت لها دوافع ومبررات مختلفة، منها ما يتعلق بتثبيت اتفاقية السلام مع إسرائيل، والرضا الخليجي بعد مشاركة مصر في حرب تحرير الكويت، وصولا إلى دعم المواجهة الحاسمة التي خاضتها الدولة في مواجهة الإسلاميين.

تقترب هذه المعادلة من نهايتها، فالامتحان الذي يواجه مصر يكمن في الحد من مخاطر انفجار سكاني لا يمكن إطعامه بسهولة، وأزمة غذاء تلوح في الأفق وتحتاج إلى تأسيس واقعية اقتصادية وسياسية ذات أبعاد وطنية، فقد تتدفق الاستثمارات الأجنبية، لكن بشروط، ويمكن أن ترسل روسيا القمح إلى القاهرة، لكن بشروط، وستوجه دول الخليج الدعوات لها لحضور قمم ومؤتمرات متعددة، لكن بشروط أيضا.

على مصر أن تواجه هذه الحقائق وتعي أن الصيغة التي ظلت صامدة السنوات الماضية ستدخل عليها تعديلات وربما تشهد تحولات دراماتيكية تتطلب منها الاستعداد لها بمنظومة جديدة من الأفكار الخلّاقة، فلن تمنح القاهرة شيئا مجانيا، أو لاعتبارات تتعلق بما رسخ في الوجدان أنها الشقيقة الكبرى التي يجب مساعدتها خوفا من تداعيات تصاعد أزماتها، أو أنها رأس الحربة في الدفاع عن الأمن القومي العربي.

يتوقف مستوى المساعدة من هنا أو هناك على نوعية الشروط التي ترافقها، فإذا اتفقنا على أنه لا شيء بلا مقابل، فإن درجة الانحياز تتوقف على نوعيته والقدرة على الوفاء به بلا خلل

تعتمد اللغة التي يمكن التفاهم بها بين مصر ودول الوفرة العربية في المرحلة المقبلة على مفردات تدور في فلك تبادل المصالح، وما يمكن أن يقدمه كل طرف إلى الآخر، لأن الأطر التقليدية التي سادت سوف تتحلل أجزاء كبيرة منها في المستقبل القريب.

ظهرت ملامح هذا التحلل في بعض الإشارات الطفيفة التي يمكن استنتاجها من القمم التي عقدتها مصر واللقاءات التي حضرتها في دول عدة مؤخرا. وجميعها صبّ في وجود صيغة جديدة للتفاعلات الإقليمية، من بينها علاقات مصر بدول المنطقة.

توصل الإدراك المصري إلى هذه النتيجة، لكن التعامل معها بنجاعة يتوقف على مدى استيعاب التفاصيل المتشعبة، والتي لا تعني أن ثمة قطيعة أو خصومة بين مصر ومحيطها العربي، بل إعادة نظر في العوامل التي حكمت العلاقات بما يتناسب مع التطورات المتسارعة في العالم.

يشير الانفتاح الخليجي الكبير على دول عديدة وما كشفته قمة جدة – بايدن أن الرهان على الولايات المتحدة بمفردها أصبح قليل الجدوى من الناحية الاستراتيجية، ما ينطبق على الرهان التاريخي على مصر في قضية الدفاع عن أمن الخليج العربي، والتي واجهت الكثير من العواصف والتحديات والتذبذب وصمدت أمامها رمزيا.

لن تذهب العلاقات بين دول الخليج والولايات المتحدة بعيدا، ولن تنفض التحالفات التي بنيت مع مصر وما خلفته من تراكمات إيجابية. كل ما حدث ويمكن أن يحدث يندرج في خانة إعادة تعريف المسميات من وحي تطورات أكدت أن الانفتاح على قوى متباينة خيار حيوي لدول تريد الحفاظ على مصالحها، بقطع النظر عن عواطفها.

يتجاوز هذا التوجه قضية العداء مع إيران أو عملية التطبيع مع إسرائيل، لأن العداء قد لا يستمر إلى الأبد، كما أن التطبيع ما لم يكن مفيدا للمصالح سيكون قابلا للانهيار.

ولذلك فأي تغير في التعاطي مع مصر لا يقلل من أهميتها أو يرتبط بالمزاج السياسي المتقلب، لأن هناك عوامل تفرض طقوسا جديدة على مصر والخليج.

وكما تحاول دول خليجية ترتيب أوراقها وفقا لحساباتها تمارس مصر تمرينا جديا مشابها، وكل طرف يحاول البحث عن تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر، وتمثل اللحظة التي نعيشها اختبارا لكل القوى الباحثة في دور ومكانة وتوظيف ما تملكه من مزايا، سياسية واقتصادية وعسكرية وغيرها.

الانفتاح الخليجي الكبير على دول عديدة وما كشفته قمة جدة – بايدن يشير إلى أن الرهان على الولايات المتحدة بمفردها أصبح قليل الجدوى من الناحية الاستراتيجية

من هنا تتوارى تدريجيا العلاقات المجانية وتختفي الشيكات التي كان يتم توقيعها على بياض، وكل دولة تكتب الرقم الذي تريده وتحدد الهدف الذي تعمل على تحقيقه.

تتخطى المعاني التي ينطوي عليها هذا المقال الشق الخليجي، لأن الرؤية المصرية معه واضحة ومحددة، وكل تغير سوف يلحق بها لن يمس المضمون الجوهري، فعملية إعادة التموضع بعيدة عن المساس بالقواعد المتينة للعلاقات بين الجانبين، فقد حدثت خلافات في بعض الأزمات ولم تصل إلى الجذور.

لتقريب الصورة أكثر يمكن التوقف عند شكل علاقات مصر بالولايات المتحدة وروسيا، وما طرأ عليها من تغيرات الفترة الماضية جعلتها تبدو متذبذبة، وهي حالة لم ينتجها تعامل القاهرة مع الأزمة الأوكرانية وعدم الانحياز للموقف الأميركي أو إدانة التصرف الروسي.

استبقت مصر هذه الأزمة وسعت للتخلي عن سياسة وضع كل أوراقها في سلة واحدة، وقامت بتنويع علاقاتها بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وأدركت وجود فواصل بين القوى ذات التوجهات المتقاربة، فداخل كل معسكر تفاوت، ومن الخطأ التعامل مع روسيا وحلفائها على أنهم معسكر متناغم، أو أن الولايات المتحدة والغرب منسجمان ويعملان ككتلة واحدة.

قد تحصل القاهرة على مساعدة أميركية في تسوية أزمة سد النهضة، وهي رسالة ضمنية حملها المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي مايك هامر في جولته الحالية التي تشمل الإمارات ومصر وإثيوبيا، بعد أن حصلت على تطمينات روسية بتوفير احتياجاتها من الحبوب، في مقدمتها القمح، خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية سيرجي لافروف إلى القاهرة الأحد.

في الحالتين لن تحصل على قيمة معنوية أو مادية من واشنطن وموسكو ما لم تتحصل كلاهما على ثمن يتناسب مع حجم ونوعية المساعدة المطلوبة، خاصة أن القسمة على اثنين قابلة للتداول في العلاقات الدولية ولم تعد مستحيلة، وانتهى الزمن الذي كانت فيه القاهرة (أو غيرها) مع هذا أو ذاك، أو على طريقة “من ليس معنا فهو ضدنا”.

يتوقف مستوى المساعدة من هنا أو هناك على نوعية الشروط التي ترافقها، فإذا اتفقنا على أنه لا شيء بلا مقابل، فإن درجة الانحياز تتوقف على نوعيته والقدرة على الوفاء به بلا خلل فاضح في التوازنات التي تنتهجها مصر، والتي تتبنى صيغة تمكنها من أن تصبح بعيدة عن حسابها على دولة دون أخرى.

تستفيد الدول التي تتبنى هذا المنهج من التغيرات الدولية التي جعلت من التمدد الأفقي عملية متداولة تأخذ بها العديد من الدول، وهو ما يمثل ارتياحا لمصر التي قد تصبح مضطرة للتخلي عن ملامح من المكونات الإيجابية التي سادت روابطها مع دول الخليج، لكن يمكن أن تستعيدها سريعا إذا نجحت في نسج شبكة جديدة من العلاقات تنطلق من المصالح المتبادلة التي لا يجور فيها طرف على آخر.

8