مصر خزان من السياسيين العرب

تحولت مصر إلى ملجأ للسياسيين العرب الباحثين عن الهدوء والاستقرار بعيدا عن بلدانهم التي تشهد نزاعات وصراعات دموية. وشكل البلد العربي الكبير محطة رئيسية مهمة لشخصيات من بلدان عربية مختلفة للإقامة فيه، حيث لم يسجل أن تعرضوا لأيّ مضايقات أو وقوعهم فريسة للمساومات والمقايضات من قبل السلطات المصرية مع بلدانهم الأصلية، إضافة إلى توفر كل إمكانيات الحياة الهادئة البعيدة عن ضجيج السياسة.
ازدادت المؤشرات على لجوء شخصيات سياسية ليبية إلى الاستقرار في مصر بعد خروجها من المشهد السياسي عقب تشكيل مجلس رئاسي وحكومة جديدين في ليبيا، في وقت ضاعفت فيه الصراعات الإقليمية من جاذبية القاهرة لاستقبال عدد من السياسيين العرب الذين لجأوا إليها لدوافع إنسانية أو سياسية.
وتعد القاهرة وجهة مقبولة لعدد كبير من السياسيين من دول عربية مختلفة، حيث لم تقم السلطات بتوظيفهم مباشرة ضد دولهم كمعارضة أو أدوات ناعمة لتحقيق أهدافها أو المتاجرة بهم ومساومتهم لتحقيق مصالح معينة، عكس المعارضين المصريين من التيار الإسلامي الذين استقبلتهم تركيا وقطر وتاجرتا بهم سياسيا للضغط على مصر.
ومن المتوقع أن يستقر عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي في مدينة الإسكندرية الساحلية مع أسرته التي تقيم هناك منذ فترة، إذا تأكد أنه فقد صلاحيته السياسية، حيث وصل مصر مساء الأحد الماضي في جولة استكشافية قد تقوده للبقاء وقتا طويلا.
وقام فايز السراج بجس النبض قبل مغادرته منصبه، ولم يجد ممانعة رسمية في العودة مرة أخرى للاستقرار في مصر التي كان يقيم فيها قبل توليه رئاسة حكومة الوفاق وله فيها مصالح اقتصادية.
وينضم صالح والسراج إلى قائمة ليبية كبيرة يقيم غالبية أفرادها في ثلاث مدن مصرية رئيسية، هي القاهرة والإسكندرية ومرسى مطروح، ومن أبرزهم أحمد قذاف الدم منسق العلاقات المصرية – الليبية خلال فترة حكم العقيد معمر القذافي، وأبوزيد دوردة رئيس جهاز المخابرات في عهد القذافي، والذي اختار الإقامة في مصر عقب الإفراج عنه بعد ثمانية أعوام من الاعتقال قضاها في طرابلس.
وتضم القائمة الليبية المرتحلة إلى مصر أسماء متعددة من السياسيين والعسكريين السابقين. ولا تزال أرملة القذافي السيدة صفية فركاش تقيم في القاهرة منذ عام 2014 مع ثلاثة من أبنائها، ناهيك عن قيادات من الصفين الثاني والثالث، وعدد كبير من هؤلاء لديهم علاقات مصاهرة في مصر ومصالح اقتصادية ممتدة.
قوافل عربية مختلفة
ظاهرة لجوء السياسيين العرب إلى العيش في مصر تضم شخصيات من ليبيا والسودان والعراق واليمن وسوريا وفلسطين
قد تكون للحالة الليبية خصوصية واضحة في مسألة الترحال إلى مصر بحكم الجوار والتداخل الاجتماعي، لكن الظاهرة لا تقتصر على الليبيين وحدهم، فهي تضم شخصيات سياسية من السودان والعراق واليمن وسوريا، ويمكن القول إن معظم الدول التي تمر بصراعات ونزاعات أو حدثت فيها تطورات سياسية وعسكرية درامية لها نصيب من الإقامة في مصر بنسب متفاوتة.
ويدور نقاش في السودان حاليا حول مطالبة القاهرة بتسليم صلاح قوش رئيس جهاز المخابرات في عهد الرئيس السابق عمر حسن البشير، والمتهم بارتكاب انتهاكات وجرائم يعاقب عليها القانون من وجهة نظر قوى الثورة، غير أن مصر لم تتجاوب مع مطالبات لا تزال تنحصر في المجال الإعلامي، حيث لم تتقدم الخرطوم بطلب لتسليمه.
يعلم السودانيون أن مصر واحدة من المقرات الرئيسية لعدد كبير من السياسيين والعسكريين السابقين منذ فترة طويلة، فقد مكث فيها الرئيس الأسبق جعفر النميري وأسرته منذ انقلاب الجيش عليه عام 1985 بقيادة الفريق عبدالرحمن سوار الذهب، وظل بها لعام 2000 ثم عاد إلى الخرطوم حتى وفاته في 30 مايو 2009.
تضاف إلى النميري حزمة كبيرة من الأسماء التي مكثت فترات طويلة في مصر، بل كانت غالبية قوى المعارضة في عهد البشير تقيم فيها مثل الراحل الصادق المهدي زعيم حزب الأمة، ومحمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي، والسياسي البارز الراحل فاروق أبوعيسى، إضافة إلى أسماء عديدة لا تحسب على تيار بعينه اختارت القاهرة مقرا لإقامتها صحبة أسرها.
ومع أن الحكومات المتعاقبة في مصر لم تستثمر سياسيا في هؤلاء، لكن وجودهم على أرضها كان يثير التوتر والرضا لدى نظام البشير. فعندما تتأزم العلاقات بين الخرطوم والقاهرة تتهم الأولى الثانية باستخدام ورقة المعارضة عندما يتم منحها مساحة للحركة السياسية من خلال إقامة ندوات والظهور في وسائل إعلام محلية، ومن هذا المنطلق كان سودان البشير يدلل على أنهم أدوات في أيدي القاهرة.
ويأتي الرضا من معرفة السودان أن الحد الأقصى لوجودهم في مصر لن يتجاوز المناوشات الإعلامية، ولن يصل إلى مستوى دعمهم ماديا وسياسيا وعسكريا بالطريقة التي تصطحب معها تداعيات تؤثر على هز النظام السوداني، فعلاقة القاهرة بالمعارضة السودانية منضبطة إلى حد كبير، وقد لا تتجاوز الخزان البشري الذي يمكن توظيفه حالة مشاركتها في السلطة في أي وقت.
مع ذلك لم يكن ولاء هذه الشخصيات كاملا، فالصادق المهدي الذي أقام فترة طويلة في مصر وتنقل بين البلدين كانت له آراء غير إيجابية في القضايا المشتركة. وفي أواخر عهد البشير طُلبت منه مغادرة القاهرة بهدوء، عندما صممت الخرطوم على هذا الطلب ووضعته في مجال مقايضة مع عناصر مصرية متطرفة كانت تقيم في السودان.
لماذا الاستضافة والترحال

ابتعدت مصر خلال نظام الرئيس الراحل حسني مبارك وحتى الآن عن توظيف المعارضة السياسية العربية ضد دولها الأصلية. وفي أوج الخلافات مع السودان لم يشهر مبارك هذه الورقة في وجه البشير، على الرغم من احتضان الأخير لعناصر مصرية متطرفة.
وتحوّل السودان في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 إلى بؤرة احتضنت الكثير من القيادات والكوادر الإخوانية المطلوبة أمنيا لمصر.
كما ابتعد النظام المصري عن الزج بهذه الورقة في أوج خلافاته مع حكومة الوفاق الليبية برئاسة السراج، إذ لم يتم استثمار خصومه في أي ألاعيب ضده مباشرة. كذلك الحال بالنسبة إلى كل الشخصيات والقوى السياسية العربية التي استقرت في مصر. لذلك فالسؤال المهم الذي يمكن طرحه هو: لماذا قبلت القاهرة باستضافة عناصر كثيرة من تيارات مختلفة وعلى فترات زمنية متباينة قررت الارتحال واللجوء إليها؟
تتضمن الإجابة مجموعة من المحددات الرئيسية، أهمها أنه على مدار التاريخ الحديث والمعاصر، لم تخل مصر من استقبال شخصيات سياسية عربية رفيعة، بشكل معلن أو خفي، للإقامة الحرة أو اللجوء.
ولعل العلاقة مع كل من سوريا ولبنان وفلسطين تؤكد هذه الحقيقة التي امتدت وتشعبت، وشملت السودان وليبيا واليمن والعراق، والقاسم المشترك بين هذه الجنسيات هو مرور بلدانها بأزمات دفعت معظمها للاستقرار في مصر للاستجمام والراحة والاستثمار أكثر من ممارسة أنشطة سياسية معينة.
ولم تستغل القاهرة هذه الظاهرة في أعمال غير مشروعة، واكتفت بوجودهم كخزان سياسي يمكن أن يحقق لها فائدة في المستقبل عندما تتغير الأحوال في دولهم، واتسقت مع قيمها في قدرتها على استيعاب وهضم جميع الجنسيات العربية، وتجنبت أن تتحول الإقامة على أرضها إلى أزمة، وربما أثارت ارتياح بعض أنظمتهم التي تعلم بعدم المتاجرة السياسية بهم.
المقايضة الممنوعة
يعتقد البعض أن المعارضة إن لم تستخدم مباشرة يمكن المقايضة بها، وهو ما لم يحدث في مصر، فوجودها كانت له دوافع عديدة ليس من بينها الدخول في معمعة المقايضة. ففي الوقت الذي كانت فيه تركيا تتاجر بورقة المعارضة المصرية
وتحتضن القاهرة معارضين أتراكا لم تقم مصر بمنحهم منابر صارخة أو تلمّـح لإمكانية طردهم مقابل طرد جماعة الإخوان، فالقضية لدى تركيا جزء مهم فيها ذو بعد عقائدي، وبالنسبة إلى مصر تمس ثوابتها وصورتها الإقليمية المتجذرة في ملف المعارضة.
لم تخل مصر منذ زمن، ولا تزال، من استضافة سياسيين من اليمن قبل أن يدخل هذا البلد في دوامة التمرد الذي قاده الحوثيون ضد الحكومة الشرعية وبعده. ظهرت القاهرة كمحطة رئيسية لعدد من السياسيين اليمنيين، شمالا وجنوبا، حيث استضافت الراحل عبدالرحمن البيضاني رئيس الوزراء الأسبق، والرئيس الأسبق علي ناصر محمد، والسفير علي محسن حميد، والقائمة طويلة وتضم شخصيات محسوبة على جبهات مختلفة، عدد كبير منهم قيادات في حزب المؤتمر الوطني الحاكم في عهد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
ويصعب حصر الشخصيات اليمنية التي حطت في القاهرة للإقامة أو الزيارة، لأنها تحولت إلى محطة رئيسية يجد فيها الكثير من السياسيين وأسرهم ملاذا آمنا، لعلمهم أنهم لن يكونوا في يوم ما محل أي مساومات أو صفقات، ولن يتم توظيفهم كأوراق معارضة للضغط على دولتهم الأم.
يرتاح من يقيمون في مصر للمرونة التي تتعامل بها الحكومة معهم، وتعتمد على احترام المصالح المتبادلة دون التأثير على ثوابت كل طرف
وتحولت القاهرة إلى وجهة أيضا لعدد من السياسيين والإعلاميين العراقيين وأسرهم بعد الغزو الأميركي عام 2003. وكانت مصر ملجأ لعدد آخر قبله لمن قرروا الاستقرار فيها هربا من ملاحقات أجهزة نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، أو طلبا للراحة وعدم المناكفة.
ولم تقتصر قائمة من يقيمون في مصر من العراقيين على اتجاه طائفي معين، فهناك سنة وشيعة وأكراد، وكلهم لا يمارسون نشاطا سياسيا ويحترمون الدولة التي يقيمون فيها، وأقصى شيء معلن حصلوا عليه كان السماح لهم ببث بعض القنوات الفضائية على قمر نايل سات المصري من مدينة الإنتاج الإعلامي في القاهرة.
وشهدت مصر توالي هجرات السوريين وأسرهم بعد اندلاع ثورتهم عام 2011، وضمت أيضا عددا من السياسيين، واتخذ أحد أجنحة المعارضة القاهرة مقرا له. وحطت في مصر قيادات من اتجاهات مختلفة دون أن تتحول إلى أداة للضغط على النظام السوري أو غيره من القوى التي انخرطت في الأزمة، لكنها كانت ورقة لإثبات الحضور المصري في الأزمة أحيانا، حيث سهلت الطريق لاستضافة اجتماعات.
كما تعاملت مصر مع بعض الأثرياء من السياسيين العرب على أنهم يسهمون في دعم الاقتصاد من خلال قيامهم بمشروعات استثمارية، خاصة مع ما توفره من ضمانات تحافظ على أموالهم وتترك لهم حرية التجارة والتملك، وقامت في هذا المجال بتوسيع أطر التعاون لإقامة مصانع من دون المساس بها أو بأصحابها.
ويرتاح من يقيمون في مصر للمرونة التي تتعامل بها الحكومة معهم، وتعتمد على احترام المصالح المتبادلة دون التأثير على ثوابت كل طرف، وفي إطار التقيد بالقانون، ونادرا ما يشكو أحد الطرفين من منغصات سياسية تحدث قطيعة، وتحل بالمعادلة الضمنية التي ارتضتها مصر والمقيمون فيها والدولة التي انحدروا منها.
ويمثل هذا التوازن الدقيق أحد الأسرار التي جذبت عددا كبيرا من السياسيين العرب لمصر، والمرجح أن يستمر الحال على هذا المنوال، وفي ظل التضييق الحاصل على الهجرات العربية عموما للدول الغربية يمكن أن يزداد استقبال السياسيين وغيرهم من الطبقات العادية، فمصر من الدول القليلة التي تفتح أبوابها بأريحية كبيرة أمام المقيمين فيها من جنسيات عربية مختلفة، ويتساوون تقريبا في المعاملة مع المواطنين، ولا تتجاوز الاستفادة منهم حدود الخزان البشري.