مصر تقرر استنهاض قوتها الناعمة قبل هجرتها إلى السعودية

الاتفاق مع الفنان محمد صبحي لتقديم مسرحيات جديدة رسالة ضمنية إلى الرياض.
الأربعاء 2022/02/23
رد اعتبار لمحمد صبحي أم رسالة إلى السعودية؟

وقّعت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية في مصر اتفاق تعاون، الاثنين، مع الفنان محمد صبحي لإنتاج عدد من المسرحيات بعد وقت قصير من اشتباكه مع رئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدا صبحي وما يمثله من رمزية للقوة الناعمة وحيدا، وهو ما جعل اتفاقه مع المتحدة لا يخلو من رسائل قاهرية إلى الرياض.

القاهرة - بدأت الحكومة المصرية تنتبه إلى أن هناك تحديات تواجه قوتها الناعمة المتراكمة التي حققتها خلال حقب سابقة، وأخذت بعض الدول الخليجية تعمل على خلق نواة تمكّنها من توسيع نطاق الاهتمام بالثقافة والفن والإعلام، مستفيدة من وجود وفرة مصرية في هذه المجالات غير مستغلة جيدا من قبل القاهرة.

وقذفت السعودية من خلال هيئة الترفيه التي يرأسها تركي آل الشيخ بحجر في هذه المياه عندما ضاعفت من وتيرة التحركات على الصعيد الفني ودشنت مجموعة من المهرجانات والاحتفالات والمسابقات اللافتة مؤخرا، أحدثت بها أصداء طيبة تتماشى مع خطة الرياض في الانفتاح العام وتغيير وجه الحياة الاجتماعية والثقافية.

وكان من الممكن أن تمر الحلقات السعودية في هدوء، غير أنها لمست وترا حساسا في مصر وقت أن بالغت في الاستعانة بنجوم مصريين في الغناء والموسيقى والدراما والمسرح، وفي جميع المجالات المكمّلة لهذه الفنون، وبدت المشاركة المصرية غنية وتحظى باستحسان من المشاركين فيها، ما يوحي بأن الثقل الفني بأشكاله وألوانه في القاهرة ينحسب منها لصالح الرياض.

السردية الناعمة

يصعب وضع مقارنة بين سردية الميراث الفني في مصر والسعودية، فالأولى متفوقة تاريخيا، لكن الثانية بدأت خطوات طموحة لاختصار المسافات وتحقيق تقدم سريع، في وقت بدت أدوات مصر الناعمة تتراجع بسبب إهمال توظيفها وعدم الاعتداد بها
تصعب المقارنة بين سردية الميراث الفني في مصر والسعودية، فالأولى متفوقة تاريخيا، لكن الثانية بدأت خطوات طموحة لاختصار المسافات وتحقيق تقدم سريع

يصعب وضع مقارنة بين سردية الميراث الفني في مصر والسعودية، فالأولى متفوقة تاريخيا، لكن الثانية بدأت خطوات طموحة لاختصار المسافات وتحقيق تقدم سريع، في وقت بدت أدوات مصر الناعمة تتراجع بسبب إهمال توظيفها وعدم الاعتداد بها.

واستيقظت بعض الدوائر الثقافية في مصر على كابوس فني مزعج اسمه السعودية يتزايد انتشاره كل يوم، في حين بدت القاهرة كأنها ضمنت تفوقها مع تراجع الفن والثقافة في كل من سوريا ولبنان والعراق، وصعوبة فهم اللهجة المغاربية لدى سكان المشرق العربي، وتقنين الاندفاع العربي نحو الفن التركي المعرّب لأسباب سياسية.

السعودية ضاعفت من وتيرة التحركات على الصعيد الفني ودشنت مجموعة من المهرجانات والاحتفالات أحدثت بها أصداء طيبة تتماشى مع خطة الرياض في الانفتاح العام 

ومع القفزة السعودية التي استخدمت فيها نجوما من مصر بكثافة، ومن دول عربية أخرى بالطبع، أخذت الرياض تقدم نفسها على أنها عاصمة جديدة للفن في المنطقة العربية وتسحب البساط من تحت أقدام القاهرة التي ارتاحت لعدم وجود منافسين أقوياء لها مؤخرا، ولم تكترث بالبحث عن مواهبها، فالفن ليس في سلّم أولويات حكومتها.

وكشفت التجاذبات بين الفنان المصري محمد صبحي ورئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ عن جانب من التحديات التي يمكن أن تواجهها القوة الناعمة المصرية بسبب انجذاب الفاعلين فيها نحو الرياض ومهرجاناتها الفنية الصاخبة والسخية ماديا.و

أشار محمد صبحي إلى أنه رفض عروضا باهظة لتقديم مسرحياته في السعودية، وهو ما نفاه تركي آل الشيخ وبعض معاونيه، وتهكّموا منه، فقد حوت ردودهم تقليلا من شأن صبحي، والذي يمثل رمزا مهما في مصر وأحد عناوين قوتها الناعمة في الدراما والمسرح، وهو معروف بصوته المرتفع والجريء، إذ هو من بين قليلين قدموا مسرحيات سياسية هادفة تنتقد الأوضاع في مصر.

مصر الرسمية والشعبية

السعودية نجحت في استقطاب الكثير من الوجوه الفنية إليها
الرياض تقدم نفسها على أنها عاصمة جديدة للفن في المنطقة وتسحب البساط من تحت أقدام القاهرة التي ارتاحت لعدم وجود منافسين أقوياء لها

علت أصوات في مصر الشعبية ممثلة في عدد من نخبها الثقافية، والتزمت مصر الرسمية والفنية الصمت في هذه المعركة التي بدا فيها محمد صبحي منكسرا، لأن وزارة الثقافة غابت ولم تظهر تعاطفا أو تأييدا، ونقابة الممثلين التي ينتمي لها وتنتفض في كل كبيرة وصغيرة تجاهلت ما جرى توجيهه إليه من إهانة بارزة، ثم أصدرت بيانا باردا على طريقة “لا غالب ولا مغلوب” أشارت فيه إلى تقديرها لجهود هيئة الترفيه ورئيسها، وأهمية صبحي كفنان مخضرم وكبير.

وجرت تفاصيل المعركة الشهر الماضي وخرج منها صبحي مهزوما معنويا نتيجة عدم وقوف أيّ من زملائه إلى جواره، حتى الفنان الوحيد (باسم سمرة) الذي أصدر بيانا تضامن فيه معه عاد واعتذر لتركي الشيخ بعد أن استشعر عدم قدرته على تحمل عقابه الفني، بما يعني أن سمرة سحب تضامنه مع محمد صبحي.

التجاذبات بين المصري محمد صبحي ورئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ كشفت عن جانب من التحديات التي يمكن أن تواجهها القوة الناعمة المصرية 

وبدت الأمور تأخذ طابعا ساخنا، كاد يقسم الفنانين في مصر إلى فسطاطين، وربما يفضي إلى ذوبان قوتهم الناعمة في كنف السعودية، دون أن تتحرك أيّ من الجهات المصرية بجدية، وأصيب الجميع بالخرس، بما يفيد أن السعودية أحرزت هدفا ونجحت في استقطاب الكثير من الوجوه إليها، ويمكن أن تتجرد مصر من نخبتها الفنية التي كانت في يوم من الأيام أحد أهم أدواتها في الوصول إلى الجمهور العربي.

التفتت إحدى الأذرع الرسمية في القاهرة إلى المعركة وفهمت رسائلها وما تنطوي عليه من تداعيات في المستقبل، واستشعرت خطورتها، وهي الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التي تعمل بالتنسيق مع جهات حكومية، وأعيدت هيكلتها العام الماضي لتكون وسيلة تستفيد من القوة الناعمة المصرية عبر أدواتها العديدة، ولم تتوقف عند الإعلام.

لذلك فالاتفاق الذي وقّعه رئيس الشركة حسن عبدالله، الاثنين، مع الفنان محمد صبحي يصعب فهمه بعيدا عن سياق محاولة ضبط المعادلة الفنية الجديدة في المنطقة، فالاتفاق يرمي إلى إنتاج مجموعة من المسرحيات، ويتضمن اكتشاف مواهب في التمثيل وتدريبهم للعمل في مسرحيات تنتجها الشركة المصرية.

ويوصف البروتوكول بأنه “رد اعتبار” للفنان المصري ممثلا في محمد صبحي، وأن القاهرة لا تقبل إهانة نجومها أو التقليل من أهميتهم، ومعنية بما يجري من نهضة فنية في السعودية وعازمة على عدم ترك قوتها الناعمة يستثمرها الآخرون لصالحهم.

ضبط المعادلة الفنية

توقيع بروتوكول المتحدة مع صبحي يأتي كخطوة تهدف إلى توفير الدعم للمسرح الذي أثمر من قبل إنتاج أعمال مسرحية
توقيع بروتوكول المتحدة مع صبحي يأتي كخطوة تهدف إلى توفير الدعم للمسرح الذي أثمر من قبل إنتاج أعمال مسرحية

جاء توقيع بروتوكول المتحدة مع صبحي كخطوة في الظاهر تهدف إلى توفير الدعم للمسرح الذي أثمر من قبل إنتاج أعمال مسرحية بالشراكة بين الشركة والفنان أشرف عبدالباقي، وإنتاج أول مسرحية باسم “كنز الدنيا”، شارك في بطولتها ذوو الاحتياجات الخاصة في مصر، بعد أن بدأت السعودية عملية إغراء فني كبير لعبدالباقي.

ويمكن فهم التحرك المصري على أنه غير مقصود وأنه محاولة للاستفادة من النجوم في إطار عملية تحول كبيرة تجري في مصر شملت مجالات متعددة ضمن تدشين “الجمهورية الجديدة” التي تعني الحداثة، ويمكن التعامل معه كرسم خط أحمر للبعض بعدم التمادي في الميل نحو السعودية، فهناك فرص في بلدهم يمكن الاستثمار فيها.

يمكن فهم التحرك المصري على أنه غير مقصود وأنه محاولة للاستفادة من النجوم في إطار عملية تحول كبيرة ضمن تدشين "الجمهورية الجديدة" التي تعني الحداثة

وتتسم المناوشات بين مصر والسعودية في السياسة مثل غيرها بعدم توجيه رسائل مباشرة، فعندما استقطبت الرياض بعض النجوم إليها لم تقل ولن تقول إنها تريد منافسة القاهرة أو تجريدها من قوتها الناعمة، وعندما ردت الثانية لم تقل إنها ستقف بالمرصاد للسعودية في سعيها لتوظيف النجوم المصريين في مشروعها الانفتاحي، لأنها بالفعل لا تقف ضده.

ما لم تنتبه إليه هيئة الترفيه أن العلاقات بين السعودية ومصر الممتازة الآن لا تعني القبول بسحب نجوم القاهرة من تمركزهم في بلدهم، لأنهم رأس حربة حاليا في يد الحكومة التي تستخدم الفن والطرب في الترويج للمشروعات التنموية الجديدة، ومعنى انضمام هؤلاء أو البعض منهم إلى قافلة السعودية الفنية ليس قلعهم من جذورهم المصرية أو على الأقل التقليل من مصداقيتهم في الخطاب الذي يعتمد عليهم أحيانا.

وتوقيع الشركة المتحدة اتفاق تعاون مع محمد صبحي والاحتفاء به إعلاميا، إشارة مفهومة لكل من هرولوا إلى الرياض ومهرجاناتها أن هذه الطريقة غير مقبولة من بلدهم، ما يردعهم جميعا أو البعض منهم، وسوف تظهر ملامح ذلك في الاحتفالات المقبلة، فالقضية أكبر من تحقيق استفادة مادية وتتعلق بدولة تتمسك بقوتها الناعمة لتستنهضها قبل هجرتها إلى السعودية.

7