مصر تدعم الجيوش العربية وضد الانقلابات العسكرية

موقف القاهرة من تقدم حفتر نحو طرابلس وانقلاب البرهان يكشفان الفرق.
الأحد 2021/10/31
دعم السيسي للبرهان لا يعني تأييده لانقلاب فج

مصر صحيح أنها تجد نفسها أقرب إلى الأدوار التي تلعبها الجيوش العربية في السياسة الداخلية مثلما هو الأمر في السودان وليبيا، لكنها لا تقبل أن تدعم أيّ أدوار تأتي في شكل انقلاب عسكري فج لا تكون للفاعلين فيه علاقة بالمشهد السياسي، خاصة في بلد مهم بالنسبة إليها مثل السودان. ورغم ذلك ما تزال القاهرة في مرمى الاتهامات بأنها تقف إلى جانب المنقلبين.

أكدت الخطوة التي قام بها قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان وعزله الحكومة المدنية بقيادة عبدالله حمدوك أن البلاد على وشك الدخول في حقبة جديدة من الحكم العسكري، وهو ما أثار غضبا وفرحا في أوساط خارجية، وانصبت الأنظار نحو رد فعل القاهرة تحديدا، حيث توقع البعض أن تكون مرتاحة للانقلاب العسكري في السودان باعتبارها من المؤيدين للجيوش العربية النظامية.

لم ينكر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أكثر من مرة تأييده لأهمية الجيوش المتماسكة والقوية وقدرتها على حماية أنظمة الحكم في إفشال التدخلات الخارجية، وتجلّى ذلك في العديد من الأحاديث حول ما جرى في كل من العراق وسوريا وليبيا، وفي ظل تطور العلاقات مع السودان عقب الاطاحة بالرئيس السابق عمر حسن البشير وتولي المجلس العسكري السلطة وتشكيل مجلس سيادة لإدارة البلاد يرأسه الجنرال البرهان.

وقتها تردد أن القاهرة من أكبر داعمي البرهان فقط لأنه ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، ويمكنه التفاهم مع الرئيس السيسي الذي كان جنرالا وشغل منصب وزير الدفاع في بلاده، ومع أن البشير انتمى إلى المدرسة ذاتها، غير أن ميوله الإسلامية طغت على العسكرية بما قلل من فرص تفاهمه مع القاهرة.

ربط سودانيون كثيرون بين السيسي والبرهان عندما توثقت العلاقات بين البلدين على أصعدة مختلفة في الآونة الأخيرة، وبدت مواقفهما متقاربة في أزمة سد النهضة الإثيوبي وتوالت المناورات العسكرية بين جيشي البلدين.

اتجهت أنظار العديد من الدوائر نحو القاهرة باعتبارها ستكون مؤيدة لتنحية المدنيين عن السلطة في السودان، وجاء البيان المصري ردّا على تحرك البرهان خاليا من إدانة الخطوة الانقلابية في الخامس والعشرين من أكتوبر وتمت صياغة بيان فضفاض ضاعف من الشكوك في نوايا القاهرة وأنها قد تكون داعما سريا للبرهان.

المشروع الانقلابي لحفتر

وساطة السيسي في الملف الليبي كانت حاسمة لوقف الصراع
وساطة السيسي في الملف الليبي كانت حاسمة لوقف الصراع

تذكّر مشاهد الربط بين المؤسستين العسكريتين في كل من مصر والسودان، بمشاهد أخرى سابقة ربطت أيضا بين الجيش المصري والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر عندما زحف بقواته من شرق البلاد إلى غربها ومتبنيا مشروعا انقلابيا قصد به اقتحام طرابلس بالقوة وإسقاط حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج.

في ذلك الوقت انهالت الاتهامات على مصر من دوائر مختلفة بذريعة أنها تقف وراء تحرك قوات حفتر نحو طرابلس، بحكم العلاقة الوثيقة التي ربطته بالقاهرة في حينه، والدعم المادي والمعنوي الذي تلقاه منها، وإيجابية النظرة المصرية للجيوش العربية كجهة أكثر قدرة على كبح جماح الانفلاتات الأمنية لأن ليبيا دخلت مرحلة خطرة من هيمنة الميليشيات المسلحة على مفاصل السلطة، بما هدد الأمن القومي المصري.

ما لا يعرفه الكثيرون أن مصر لم تكن مرحبة تماما بتحرك حفتر نحو طرابلس، بل رافضة له، وقد استمعت من أحد القيادات العسكرية شرحا وافيا بأن هذه الخطوة مكتوب عليها الفشل أكثر من النجاح، ولن يتمكن حفتر من اقتحام طرابلس والسيطرة عليها، وذلك في الأيام الأولى لبدء تحركه، وكأن هذه الرؤية مبنية على تقديرات تتعلق بتوازنات القوى الداخلية وحسابات القوى الخارجية.

تلقيت إجابة مباشرة من قائد عسكري مصري بأن بلاده لا تؤيد هذه الخطوة، والتي وصفت بـ”الحمقاء”، لأن تداعياتها ستكون وخيمة، وقيل وقتها “إنها غير مستبعد أن تكون فخا منصوبا لإسقاط حفتر، وتقويض قوته العسكرية إذا أخفق في تحقيق هدفه”.

فهم البعض هذه التقديرات على أنها مناورة ورؤية لا تعكس الحقيقة، وظل هؤلاء على موقفهم إلى أن ثبت عدم تأييد القاهرة لهذا النوع من الانقلابات، حيث أخفق حفتر في دخول العاصمة الليبية وعاد إلى الشرق وتحطم جزء كبير من هيبته السياسية.

هندسة سياسية

سيطرة الجيش على الحكم يؤجج الاحتجاجات
سيطرة الجيش على الحكم يؤجج الاحتجاجات

يكاد يشبه ما يجري في السودان الآن ما جرى في ليبيا قبل حوالي عامين، من حيث أن الموقف المصري حيال دعم الجيوش العربية لا يعني دعمها في الزحف نحو السيطرة على الحكم دون هندسة سياسية كافية تتطلب مراعاة البيئة الداخلية وتشابكات القوى الفاعلة فيها، والأجواء الخارجية والمواقف التي يمكن أن تتبناها بعض الدول، والتفاف الجيش حول قيادته، والقدرة على التحكم في حركة الشارع.

الناظر إلى تقدم الجيش في آخر ثورتين حدثتا في مصر في الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013، يجد أن هناك استدعاء له من القاعدة إلى القمة وليس اقتحاما للحياة السياسية، وبعد فوران حدث في الشارع ضد نظامي حسني ومبارك ثم محمد مرسي مهّد إلى انحياز المؤسسة العسكرية للمواطنين، فقد خرج في الثورتين الملايين وكان دعم الجيش لها واضحا.

الموقف المصري حيال دعم الجيوش العربية لا يعني دعمها في الزحف نحو السيطرة على الحكم دون هندسة سياسية كافية

صعد المشير السيسي إلى السلطة عام 2014 وبدا ذلك منطقيا ومقبولا وتم الاحتفاء به من قبل غالبية المصريين واعتبروه المخلص لهم من حكم الإخوان، واتبع جميع الخطوات السياسية في انتخاب رئيس الدولة وخلق مساحة كبيرة بينه وبين الاقتناع بفكرة الانقلاب التي روّجها الإخوان ودوائر غربية كثيرة.

دمغ عدم قدرة البرهان على حشد الملايين من مؤيديه في الشارع خطوته بالانقلاب، وتعززت هذه المسألة مع قدرة مناوئيه من المدنيين على حشد الملايين الرافضة لتحركه في الأيام التالية، وهو ما نزع عن تصوراته فكرة تصحيح المسار التي أراد تسويقها، ولم تسعفه التبريرات والتفسيرات المختلفة لتوسيع نطاق التأييد.

استطاعت مصر تحسين علاقتها بالعديد من القوى في غرب ليبيا روجت سابقا لسيناريو دعم القاهرة لتحرك حفتر نحو طرابلس، ومن دون أن تتخلى عنه تماما حتى الآن، لكن المسافة التي قطعتها نحو الآخرين قللت من وطأة حديث الانحياز وساعدتها على أن تكون طرفا إقليميا فاعلا في جميع المبادرات التي صيغت للتسوية السياسية، هكذا تحاول القاهرة حيال القوى المدنية بالسودان التي لم تنقطع الصلة بها في الفترة الماضية.

لكن مشكلة مصر مع السودان أشد تعقيدا لأن هناك قوى حية وأكثر انخراطا وتنظيما في الحياة السياسية، ولديها صورة نمطية عن دعم القاهرة للجيوش العربية، وصورة ذهنية قاتمة عن رغبتها في أن يخطو السودان نحو الديمقراطية، حيث يعتقد البعض أن تقديم نموذج مدني يمثل تهديدا لنظام مصري أحكم سيطرته على الفضاء العام.

تدرك مصر طبيعة التركيبة السياسية والاجتماعية في السودان، وتدرك أيضا أنه بقدر الميول الوطنية العالية للجيش في السودان، إلا أن وجود جيوش موازية تنتمي إلى حركات مسلحة وبقايا ميليشيات شكّلها البشير تعد خطرا على المؤسسة العسكرية السودانية، وأيّ قائد مهما بلغت درجة حنكته لن يستطيع فرض سيطرته على الأمور في ظل جغرافية مترامية بعضها وصل حد التفكك أو على وشك التفكك.

الخطوة التي قام بها قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان وعزله الحكومة المدنية بقيادة عبدالله حمدوك أكدت أن البلاد على وشك الدخول في حقبة جديدة من الحكم العسكري

كما أن الانقلابات العسكرية المباشرة باتت خطرا على الدول، ولا تعني سيطرة الجيش على الحكم بأيّ طريقة أن الأوضاع يمكن أن تستقر بعد رفع البندقية واستخدام الحديد والنار، أو تهدأ الأوضاع ويتم التسليم بالأمر الواقع، فقد تراجع هذا الاعتقاد.

بصرف النظر عن توصيف النظام المصري وتوظيف الرئيس السيسي لكثير من الآليات السياسية المتعارف عليها في الوصول إلى السلطة، فهو لم ينكر أهمية الحريات وحقوق الإنسان ويتخذ من الوسائل ما يحاول بها دحض اتهامات الآخرين لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية ومحاولة تثبيت أركان حكمه سياسيا.

لذلك فقوة الجيوش وحدها لا تكفي للسيطرة على الحكم في السودان أو غيره ولن يتمكن البرهان من فرض الأحكام العرفية بسهولة، وكان من الضروري أن تكون هناك خطة مقنعة تسهم في تقبل تحرّكه.

لكن يبدو أن الرجل تصرّف على عجل ولم يستفد من التجربة المصرية، وتكفي الطريقة التي أعلن بها تحرّكه والتداعيات التي نجمت عنه ويمكن أن تنجم لتقلل من فكرة أنه تلقى دعما من مصر، أو حتى كانت على علم بانقلابه.

4