مصر المحروسة لم تعد حارسة لمواهبها التمثيلية

ممثلون مصريون في الدراما العربية.. "إعارة" أم هجرة عكسية.
الجمعة 2021/11/12
الحضور المصري في "ليلة السقوط" له ما يبرّره دراميا

باتت الدراما العربية المشتركة الحصان الرابح لبعض المنتجين العرب الذين ينفقون بسخاء على مثل هذه الإنتاجات الضخمة ويجنون من ورائها عوائد مادية هامة، الأمر الذي عجّل بهجرة بعض الممثلين المصريين إلى الضفة الأخرى، بعد أن كانت مصر “هوليوود الشرق” المستقطبة لأجيال من الفنانين العرب، فهل هي إعارة فنية أم هجرة عكسية فرضها تغيّر الواقع الدرامي العربي الجديد؟

كانت مصر، وإلى زمن قريب، قبلة الفن العربي و”هوليوود الشرق” فعلا، لكن الأمر تغيّر اليوم بحكم مجموعة من الانزياحات التي لها ما يبرّرها.

كان من الطبيعي أن يحدث هذا الاستقطاب الفني الهائل في بلد بحجم مصر من حيث التعداد البشري والتنوّع السكاني والوزن الثقافي والسياسي. كلها عوامل جعلت من مصر مقصدا لكل ذي موهبة فنية.

تطوّر عربي

نيرمين الفقي: لا مانع في مشاركة المصريين في الدراما العربية، فكلنا إخوة
نيرمين الفقي: لا مانع في مشاركة المصريين في الدراما العربية، فكلنا إخوة

هذه المركزية الفنية التي كانت تمثلها “هوليوود الشرق”، في طريقها اليوم إلى التراجع والاضمحلال بحكم أسباب داخلية تخصّ مصر، وأخرى خارجية تتعلق بالبلدان العربية التي أصبحت مراكز جذب للفنانين المصريين، وخاصة الممثلين منهم.

على الصعيد المصري المحلي، ظلت الفنون الدرامية تراوح مكانها فلم يتطوّر الأداء الفني لا من حيث القضايا المطروحة، ولا أساليب الأداء التمثيلي، ولا طرق الإخراج والمعالجة الفنية.

الأسباب الكامنة خلف هذا التراجع تعود إلى انغلاق شركات الإنتاج على نفسها وعدم المغامرة بالانفتاح على مدارس فنية حديثة، وقد راق لها الربح المضمون في أسواقها التقليدية لفترة طويلة أمام عدم وجود منافسين.

سرعة الانتشار وتحقيق نوع من النجومية أدّى بعدد كبير من الممثلين العرب إلى شد الرحال نحو “مصر المحروسة”، وقد تمكّن الكثير من هؤلاء من الاستقرار في مصر والانخراط في الماكينة الإنتاجية على مدى جيلين أو ثلاثة. وكانت غالبية هؤلاء من النساء وليست من الرجال، ومن أقطار معينة مثل سوريا ولبنان وتونس، على وجه الخصوص.. وتحسب هذه الميزة لمصر التي فتحت قلبها وذراعيها، ولم تمارس أي تفرقة ضدّ هؤلاء الوافدين إليها طلبا للشهرة وتحقيقا للحلم.

أما على الصعيد الخارجي الكامن وراء هذا التراجع الإنتاجي المصري الذي أدّى إلى هجرة عكسية للفنانين المصريين وانخراطهم في أعمال عربية، هو كون البلدان العربية الأخرى لم تعد أطرافا تحوم حول مركز وحيد اسمه القاهرة.

لقد تغيّر الأمر على جميع الأصعدة، وانتقلت هذه البلدان من موقع المستهلك للدراما المصرية إلى موقع المنتج لدراما تخصّها، وبمواصفات فنية وإنتاجية أكثر تطوّرا ومواكبة للعصر، لذلك شدّ الرحال إليها الكثير من الممثلين المصريين اليوم مع نوع من الاعتزاز بإنتاجهم الوطني والتحدّث على أن بلادهم تبقى دائما “الأصل والمرجع”.

وفي هذا السياق، يعتبر الناقد الفني المصري طارق الشناوي أنه من الطبيعي أن يلجأ الفنانون العرب إلى المصريين من أجل تحقيق الانتشار لأعمالهم، مشيرا إلى إقبال بعض الفنانين المصريين على المشاركة في الأعمال العربية لأهداف مادية بحتة، خاصة أن الممثل لا يهرب إلى هناك لتحقيق الشهرة، فهو “أصلا في هوليوود الشرق، ولكنهم يفعلون ذلك لأن المنتجين العرب ينفقون ببذخ على هذه الأعمال ويقدّمون عروضا مغرية”، وأكّد الشناوي أن المخرجين العرب هم الذين يلجؤون إلى الفنانين المصريين من أجل إضافة رونق لأعمالهم.

المصريون اقتحموا الدراما العربية المشتركة ليس بحثا عن الشهرة، إنما لأن منتجيها ينفقون ببذخ ويقدّمون عروضا مغرية

وردا على هذا الكلام قالت الفنانة نهال عنبر التي تشارك في مسلسل “عرب لندن” الذي يخرجه السوري أنور قوادري، إنه حتى لو كان الهدف من المشاركة في الأعمال العربية ماديا فهي تظل في حدود العمل وداخل المهنة، وأشارت إلى أنها من الفنانات اللواتي لا ينظرن إلى العائد المادي بشكل مباشر وتهتم أكثر بالموضوع وما سيقدّمه العمل لمشوارها الفني، مؤكدة أن الفنان لا يحتاج إلى السفر إلى الدول العربية لتحقيق الثراء فمن الممكن أن يحقّقه في مصر لو أراد.

وبعض النقاد يجدون لهذه المسألة مخرجا ومقاربة مختلفة مثل نيرة سعيد، التي ترى أن ظاهرة الهجرة العكسية للفنانين -أي من مصر إلى الدول العربية- وذلك للمشاركة في أعمال فنية عربية مشتركة، ظاهرة تشبه ظاهرة الإعارة للعمل في الدول العربية التي خاضها الكثير من الموظفين والمهنيين والعمال منذ الطفرة البترولية في السبعينات من القرن الماضي.

فترى سعيد، أن المتابع للأعمال الخليجية يجد هذه الإعارة متحقّقة في المسلسل الكويتي “عمارة الأسرار” والذي شارك فيه كل من محمد رياض ونورهان ونشوى مصطفى، وهذه الأخيرة لها العديد من المشاركات الخليجية في مجموعة من المسلسلات الإماراتية والسعودية والبحرينية والكويتية.

بالعودة إلى أسباب بروز هذه الهجرة العكسية التي قلبت المعادلة، فإن الدراما السورية ظهرت بداية التسعينات، وخرجت فيها الكاميرا من الأستوديوهات لمعالجة مواضيع جديدة وبتقنيات مبتكرة على مستوى الإخراج والأداء التمثيلي ثم تبعتها إنتاجات عربية أخرى، وقد خرجت من عزلتها واحتشامها كالدراما الخليجية وحتى اللبنانية والتونسية.

خروج من العزلة

سخاء الإنتاج الخليجي أغرى ممثلات مصر بالهجرة العكسية
سخاء الإنتاج الخليجي أغرى ممثلات مصر بالهجرة العكسية

تغيّر المشهد، وبدأت الدراما المصرية تفقد جمهورها وأسواقها التقليدية، وكان لزوما على الممثل المصري أن يبحث عن مكانه خارج الأرضية الرخوة التي يقف عليها، ثم إن شركات الإنتاج العربية أكثر “سخاء” من تلك التي يمكن العمل معها في بلاده.

الأعمال المشتركة هي الحل الأنسب لجميع الأطراف، إذ لا يمكن الاستغناء عن الممثل المصري كما لا يمكن تجاهل الموارد الإنتاجية والمعالجات الفنية العربية، وصار من اللازم البحث عن مواضيع مشتركة، ولكن دون افتعال أو تصنّع.

وفي هذا الصدد، تم مثلا، تصوير مسلسل “ليلة السقوط” والذي يعتبر أكبر إنتاج عربي مشترك مصري عراقي سوري، وذلك من خلال ميزانية مفتوحة، وبمشاركة نحو مئة وخمسين فنانا من العراق ومصر وسوريا والأردن وتونس، وذلك وفق البيان الصادر عن الشركة المنتجة.

ويتحدّث العمل عن سقوط الموصل بيد تنظيم داعش، ومواضيع أخرى مثل السبايا الإيزيديات وتعاون القوات الاتحادية العراقية والحشد الشعبي والبيشمركة لتحرير المدينة.

البلدان العربية انتقلت من موقع المستهلك للدراما المصرية إلى موقع المنتج لدراما تخصّها، وبمواصفات فنية عالية

ولكي يتمّ إنصاف الجميع بالتساوي، اختارت الشركة المنتجة الموسيقي المصري ياسر عبدالرحمن لوضع الموسيقى التصويرية للعمل الأضخم إنتاجا في العالم العربي.

العرب جميعهم يعلمون مدى الحساسية التي قد تصنعها فكرة الحديث عن تراجع الدراما المصرية لدى أبنائها والغيّورين عليها، لكن المضي إلى الأمام، والتعويل على فكرة العمل العربي المشترك بعيدا عن الخلفيات السياسية، هو أفضل الحلول وأكثرها تقبلا لدى المصريين بشكل خاص والعرب بشكل عام.

ولعل أفضل ما يفيد في هذا المجال هو تصريح الفنانة المصرية نيرمين الفقي، إذ تساءلت عن المانع من مشاركة الممثل المصري في الأعمال العربية في حين أن العكس كثيرا ما كان يحدث دون أن يلفت ذلك انتباه أحد، فـ”كلنا إخوة عرب ولا فرق بيننا”، وأشارت إلى أن هذه المشاركات تدعم فكرة الترابط بين العرب، مؤكّدة أنها لا تقبل أي دور مهما كان محليا أو عربيا، إلاّ بعد تأكّدها من أنها الأقدر على تجسيد الشخصية التي تلعبها.

15