مصريون يتوارثون الحرف والفنون الفرعونية في مدينة القرنة القديمة

الأقصر (مصر) – عندما تزور مقابر ومعابد ملوك وملكات ونبلاء الفراعنة، في البر الغربي لمدينة الأقصر التاريخية بصعيد مصر، سوف تقودك قدماك لتتجول في ربوع مدينة القرنة القديمة، الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، وسوف تجذبك الأحجار بكل أنواعها وألوانها، والمباني التي تسكنها عائلات تتوارث الحرف والفنون المصرية القديمة التي يبلغ عمرها قرابة 3500 عام.
إنهم أناس يمتهنون حرف النحت وفنونه والنقش والرسم على الحجر، الأطفال والنساء والرجال يعملون على حفظ فنون أجدادهم الفراعنة الذين نحتوا ونقشوا ورسموا المئات من المقابر والعشرات من المعابد في جبل القرنة، أو ما يطلق عليه قديما “جبانة طيبة”.
هنا يرقد ملوك وملكات ونبلاء الفراعنة، في مقابر نحتت في الصخور قبل آلاف السنين، على يد عمال وفنانين مهرة، كانوا يقيمون في مدينة العمال، التي تعرف اليوم باسم “دير المدينة”، جنوبي القرنة.
وعلى خطى سكان مدينة العمال التي تأسست في عهد الدولة الحديثة (1570 قبل الميلاد–1070 قبل الميلاد)، واصل سكان مدينة القرنة الحفاظ على فنون النحت والنقش والرسم والتلوين، فيما بات يعرف اليوم بـ” صناعة الألباستر”.
وبجانب المئات ممن يمتهنون مهنة نحتِ ونقش ورسم وتلوين التماثيل واللوحات الجدارية التي تعد نسخة كاملة من تلك التماثيل واللوحات التي تزين المقابر وتمتلئ بها معابد قدماء المصريين، هناك ما يعرف بـ”مصانع الألباستر” التي أقيمت على جانب الطرق المؤدية إلى معابد ومقابر الفراعنة، في تلك المنطقة التي تضم بين جنباتها مقابر وادي الملوك ووادي الملكات والأشراف والعساسيف وذراع أبوالنجا.
كما أن هناك معابد الرامسيوم وهابو وسيتي الأول وأمنحتب الثالث وإيزيس ومرن بتاح وحتشبسوت، وغيرها من المزارات الأثرية المهمة التي يتوافد لزيارتها كل يوم آلاف السائحين من مختلف بلدان العالم. وتضم مصانع الألباستر مجموعات من هؤلاء الفنانين الفطريين من أهل مدينة القرنة، وقاعات عرض ضخمة يعرضون بداخلها المئات من التماثيل واللوحات والتحف الفرعونية، التي يأتي السائحون لشرائها والعودة بها إلى بلادهم.
وقال صالح عبدالمعطي، العميد الأسبق لكلية الفنون الجميلة في الأقصر، “إن هؤلاء الفنانين الفطريين من الأطفال والنساء والرجال، كان لهم دور كبير في حفظ الكثير من حرف وفنون قدماء المصريين، ومن الطريف أن هؤلاء الفنانين الذين يبدعون تماثيل ولوحات جدارية مدهشة، لم يذهبوا إلى كليات أو معاهد فنية، بل توارثوا تلك الحرف والفنون من أجدادهم جيلا بعد جيل”.
وتوارث هؤلاء خبرة جلب الأحجار، ومعرفة أنواعها وألوانها، والمعدات والأدوات التي تستخدم في تقسيمها إلى قطع، وتهيئتها لتكون صالحة لنحت تمثال أو نقش ورسم لوحة جدارية.
وبحسب إبراهيم زوتس، رئيس جمعية حماية التراث والفنون في الأقصر، فإن مؤسسات حكومية تدعم هؤلاء النحاتين والرسامين في القرنة، عبر إشراكهم في معارض خارجية وداخلية يعرضون فيها منحوتاتهم من التماثيل واللوحات الفرعونية، بجانب إقامة ورش عمل لتدريب الصغار على حرف وفنون أجدادهم من قدماء المصريين، الذين سكنوا تلك المنطقة قبيل آلاف السنين.
وأكد زوتس ضرورة وجود آلية دائمة لدعم هؤلاء الفنانين، ومساعدتهم على الاستمرار في حفظ وحماية تلك الحرف والفنون التاريخية من الاندثار، وتوفير الأحجار اللازمة لنحت التماثيل واللوحات، وإقامة ورش فنية لهم ومساعدتهم في تسويق التماثيل واللوحات الفرعونية التي ينحتونها في منازلهم عبر شراكة عائلية لافتة يشارك فيها كل أفراد العائلة، فمنهم من يشق الأحجار، ومنهم من ينحت التماثيل، ومنهم من يقوم بنقش ورسم اللوحات الجدارية، ومنهم من يقوم بتلوين التماثيل واللوحات، فلكل فرد دور في نحت ونقش ورسم وتلوين تلك التماثيل واللوحات التي تُبهر زوار آثار الفراعنة في الأقصر من مختلف أنحاء العالم.
وكان سكان القرنة يعيشون في مساكن أقيمت فوق مقابر قدماء المصريين وبين معابدهم، قبل أن تقوم الحكومة بنقلهم من تلك المساكن إلى مدينة القرنة الجديدة التي أقيمت على بعد عدة كيلو مترات من القرنة القديمة، لكن بعض نجوع القرنة القديمة لا تزال باقية حتى اليوم وسط معابد ومقابر شيدها قدماء المصريين قبل آلاف السنين، مثل سكان الرامسيوم وسكان عزبة الورد وسكان نجع الجنينة والمنطقة الملاصقة لمصانع الألباستر المواجهة لمقابر الأشراف والنبلاء من قدماء المصريين في ذراع أبوالنجا والعساسيف والأشراف.
يذكر أن سكان القرنة الذين يمارسون الفن بالفطرة، هم ورثة لأجدادهم الذين أبدعوا تماثيل ولوحات وقطعا فنية رائعة، ذات ألوان مفعمة بالحيوية، وتميز أسلوبهم بالأناقة والجمال والفخامة، وهو ما يؤكد مدى ثقة الفنان بنفسه -آنذاك- ومدى ما كان ينعم به من حرية التخيل والإبداع.
واستخدم المصري القديم أدوات بسيطة مثل الإزميل في نحت التماثيل، ونقش الرسوم والكتابات الهيروغليفية على جدران المقابر والمعابد، كما عرف صناعة وتكوين الألوان قبيل آلاف السنين.
وكان لا بدّ للفنان المصري القديم الذي يقوم بنحت الحجر أن يكون على دراية بفن الرسم، وكانت الألوان في مصر القديمة تتكون من أصباغ معدنية وماء يتم خلطه بالصمغ والشمع والعلكة والطمي وزلال البيض، بجانب الراتينج الذي كان يستخدم لتثبيت الألوان.
كما كان الفنان المصري القديم يستخدم فرشاة ذات شعر ناعم تشكل من قطعة خشب وفي طرفها تثبت ألياف نباتية، أو قلم من الحطب، في تلوين الرسوم والنقوش واللوحات والتماثيل. وقد عرف الفنان المصري القديم ثمانية أنواع من الألوان هي الأبيض والأصفر والأحمر والأزرق والأخضر والبني والرمادي والأسود.
