مسيحيو فلسطين.. ضحايا الصلف الإسرائيلي والصمت الدولي

إسرائيل نجحت في تحريف الصراع في فلسطين بالتركيز على طابعه الديني.
الخميس 2020/02/06
أقدم مجتمع مسيحي في العالم

إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب “صفقة القرن”، يوم 28 يناير الماضي، أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمامات العربية والدولية، سواء من ناحية المواقف المنددة بالصفقة، أو من زاوية محاولة تلمس حلول للوضع الذي سيترتب عن خطة ترامب، ومع ذلك لم تحظَ وضعية المسيحيين الفلسطينيين باهتمام يتناسب مع التحديات المطروحة عليهم، رغم أنهم يمثلون مكونا أساسيا من مكونات المجتمع الفلسطيني، زوّد القضية بمجموعة مهمة من نخبها السياسية والثقافية، فضلا عن كون إيمانهم بعدالة قضيتهم أضفى عليها طابعا وطنيا وإنسانيا.

 بيت لحم (فلسطين) – المؤشر الأول الدال على وضعية المسيحيين الفلسطينيين اليوم هو المؤشر العددي، حيث أشارت دراسات كثيرة إلى أن أعداد المسيحيين في الأراضي الفلسطينية تراجعت منذ النكبة الفلسطينية، عام 1948، بعد تهجير أكثر من 50 ألف مسيحي، وحيث قامت إسرائيل بالاستيلاء على أكثر من نصف الممتلكات المسيحية في مدينة القدس.

وبعد النكسة، في العام 1967، تزايدت المصادرات الإسرائيلية لأملاك المسيحيين، ووصلت إلى 30 بالمئة، وكان من أبرز الأمثلة على هجرة المسيحيين؛ مغادرة ما يناهزُ 55 ألف مسيحي مدينة رام الله بالضفة الغربية إلى الولايات المتحدة، وبذلك لم يتبقّ في المدينة سوى 1600 مسيحي. ولذلك اعتبر تراجع عدد السكان المسيحيين في فلسطين مسألة تنذر بخطر داهم، إذ يتعرض أقدم مجتمع مسيحي في العالم لتضييقات تقترب من التطهير العرقي، وكل ذلك ناتج عن الاحتلال الإسرائيلي.

وفي تعريفه للمكون المسيحي في فلسطين، قال الأمين العام للهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات، حنا عيسى، إن “الأراضي الفلسطينية تضم 13 طائفة مسيحية، هي الروم والكاثوليك واللاتين والروم الأرثوذكس والبروتستانت والسريان والأرمن والأقباط والأحباش والموارنة والشركس، وطوائف أخرى عديدة، وكل هؤلاء يشكلون ما نسبته 20 بالمئة من مجموع تعداد الشعب الفلسطيني”. وأضاف حنا عيسى “مسيحيّو القدس، مثلهم مثل مسيحيي بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله وغيرها، يتعرضون لمحنة حقيقية هي الهجرة المتفاقمة، التي تتجاوز بكثير معدلات الهجرة السائدة في المجتمع الفلسطيني”.

وعلى الرغم من هذا التعدد داخل الجسم المسيحي الفلسطيني، إلا أن المسيحيين في فلسطين واظبوا على التمسك بالهوية العربية الفلسطينية في وجه كل الممارسات الهادفة إلى تهجير المسيحيين أو تهميشهم. ولم يحل تنوعهم المسيحي دون إيمانهم بكونهم جزءا من الهوية العربية الفلسطينية، ولم يحل أيضا دون مساهمتهم في النضال من أجل الدفاع عن تلك الهوية التاريخية والحضارية، ما أضفى على القضية الفلسطينية بعدها الإنساني من حيث أن مساهمتهم الريادية في مقاومة الاحتلال، خلصت الصراع من بعده الديني الذي ركزت عليه التيارات الإسلامية.

وفي هذا الصدد انعقد في 15 أكتوبر من العام الماضي، في جوهانسبورغ عاصمة جنوب أفريقيا، مؤتمر “الأرض المقدسة: منظور فلسطيني مسيحي”، وتوصل خلاله المشاركون إلى أن الانخفاض السريع والمتواتر لعدد المواطنين المسيحيين في فلسطين، يمثل خطرا داهما على الوجود المسيحي وعلى القضية الفلسطينية في آن.

من خلال فصل المسيحيين عن بعضهم بعضا، تأمل إسرائيل بإضعاف الروابط التي تمنح الفلسطينيين هويتهم الجماعية

وعلى الرغم من اختلاف تقديرات عدد المسيحيين الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون في مدنهم وقراهم اليوم، من إحصاء إلى آخر، فإن كل الأرقام المتداولة والمنشورة تشير إلى انخفاض عدد السكان المسيحيين في فلسطين إلى النصف في السنوات السبعين الأخيرة.

تعداد سكاني نظمه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في 2017 توصل إلى تواجد 47 ألف مسيحي فلسطيني في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية وقطاع غزة. يعيش 99 بالمئة من المسيحيين في فلسطين في الضفة الغربية وخاصة في رام الله وبيت لحم والقدس. ويعيش الباقون في قطاع غزة.

ولعل المثال الأبرز على أثر الهجرة أو التهجير الناتج عن مصادرة البيوت أو المترتب عن أسباب سياسية أخرى، هو مثال مدينة بيت لحم مسقط رأس المسيح. قبل النكبة عام 1948، كان 86 بالمئة من سكان بيت لحم من المسيحيين، ثم تغيرت التركيبة السكانية للمدينة جذريا بعد يونيو 1967، وبعد انطلاق إسرائيل في بناء جدار الفصل العنصري في يونيو 2002.

وتعرض المسيحيون الفلسطينيون الذين كانوا موجودين في بيت لحم للترحيل بأعداد كبيرة من مدينتهم التاريخية. وحسب تقديرات فيرا بابون، رئيسة بلدية بيت لحم من نوفمبر 2012 إلى مايو 2017، انخفض عدد السكان المسيحيين في المدينة في العام 2016 ليصبح في حدود 12 بالمئة من العدد الجملي بعد أن كان في حدود 86 بالمئة، وأصبح عدد المسيحيين لا يتجاوز 11 ألف شخص.

وبناء على هذه المؤشرات العددية، يمكن أن نبيّن الصلة بين تراجع عدد السكان المسيحيين في فلسطين وبين الاحتلال الإسرائيلي ونظام الفصل الواضح ضد المجتمع العربي، المسيحي والإسلامي، في فلسطين.

أجرت دراسة نظمتها كلية دار الكلمة في بيت جالا بالضفة الغربية قبل نشرها في ديسمبر 2017 مقابلات مع حوالي ألف فلسطيني، كان نصفهم من المسيحيين والنصف الآخر من المسلمين. ومثّل فهم سبب الاختفاء التدريجي للسكان المسيحيين في فلسطين أحد الأهداف الرئيسية لهذا البحث.

تراجع متواصل في أعداد المسيحيين الفلسطينيين 
تراجع أعداد المسيحيين الفلسطينيين بسبب الهجرة

وخلصت الدراسة إلى أن “ضغط الاحتلال الإسرائيلي، والسياسات التمييزية، والاعتقالات التعسفية، ومصادرة الأراضي تضاف إلى الشعور العام باليأس في صفوف المسيحيين الفلسطينيين”، الذين وجدوا أنفسهم في “وضع لم يعد بإمكانهم رؤية مستقبل لأبنائهم أو لأنفسهم فيه”. ولا تعدّ الادعاءات التي تزعم مغادرة المسيحيين الفلسطينيين لبلادهم بسبب التوترات الدينية المشتعلة بينهم وبين إخوانهم المسلمين صحيحة.

يمكن اعتماد غزة كمثال آخر. يعيش 2 بالمئة من المسيحيين الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر. عندما احتلت إسرائيل غزة في 1967، كان 2300 مسيحي موجودين في المنطقة. وانخفض هذا العدد اليوم حيث لا يتجاوز 1100. وبذلك، قضت سنوات من الاحتلال والحروب الفظيعة والحصار القاسي على مجتمع يحمل جذورا يرجع تاريخها إلى أكثر من ألفي سنة.

مثل المسلمين في غزة، يبقى هؤلاء المسيحيين معزولين عن بقية العالم، بما في ذلك الأماكن المقدسة في الضفة الغربية. وكل سنة يسعى المسيحيون في غزة للحصول على إذن من الجيش الإسرائيلي للانضمام إلى احتفالات عيد الفصح في القدس وبيت لحم. في أبريل 2019، لم يحصل سوى 200 مسيحي على التصريح شرط ألا يقل سنهم عن 55 عاما.

تهدف إسرائيل إلى ما أكثر من ذلك. فمن خلال فصل المسيحيين الفلسطينيين عن بعضهم البعض وعن أماكنهم المقدسة (في حالة المسلمين)، تأمل الحكومة الإسرائيلية في إضعاف الروابط الاجتماعية والثقافية والروحية التي تمنح الفلسطينيين هويتهم الجماعية.

ترتكز إستراتيجية إسرائيل على فكرة أن مجموعة العوامل من قبيل الصعوبات الاقتصادية الهائلة والحصار الدائم ونظام الفصل وانهيار العلاقات المجتمعية والروحية ستُخرج جميع المسيحيين من وطنهم في النهاية.

وتريد إسرائيل تقديم “النزاع” في فلسطين باعتباره صراعا دينيا حتى تتمكن من تقديم نفسها كدولة يهودية محاصرة وسط سكان مسلمين يهيمنون على الشرق الأوسط. ولا يخدم تواجد المسيحيين الفلسطينيين هذا الهدف.

ولقد نجحت إسرائيل، نتيجة تضافر عوامل فلسطينية وإقليمية ودولية كثيرة، في تحريف النضال في فلسطين وإبرازه كصراع ديني رغم أنه في حقيقته وعمقه نضالا من أجل افتكاك الحقوق السياسية والإنسانية ضد الاستعمار.

المسيحيون الفلسطينيون هم مواطنون لعبوا دورا مهما في تحديد الهوية الفلسطينية الحديثة من خلال مقاومتهم وروحانيتهم وتشبثهم بأرضهم ومقدساتهم ومساهماتهم الفنية والثقافية ومعرفتهم العلمية المتنامية.

التحديات التي يواجهها المسيحيون في فلسطين هي حلقة مهمة من حلقات الاحتلال الإسرائيلي، وإذ تتجند قوى سياسية وحقوقية وإنسانية كثيرة في العالم من أجل منع إسرائيل من استبعاد أقدم جماعة مسيحية في العالم، فإن ذلك يتطلب أيضا بلورة فهم وطني لصمود الفلسطينيين ومقاومتهم لا يستبعد ولا يقصي دور المسيحيين في صياغة الهوية العربية الفلسطينية.

13