مسلسل "نقل عام" يحقق معادلة صعبة لاستعادة جمهور التلفزيون

دراما مصرية تعتمد على الأفكار والتشويق وتغوص في التفاصيل.
الجمعة 2022/03/18
قصص من الواقع

يعالج المسلسل المصري “نقل عام” عددا من القضايا والظواهر التي يشكو منها المجتمع، لكنه يقدمها بأسلوب شيّق وممتع وبحبكة درامية مقنعة مكنته من إثبات أن المسلسلات قادرة على تحقيق النجاح خارج الموسم الرمضاني، إن هي بُنيت على نص وسيناريو جيدين، وعلى موهبة إخراجية قادرة على إسناد الأدوار لمن يقدم لها الإضافة.

القاهرة - تزخر الدراما المصرية بالكثير من الأعمال التي تتناول قضايا مهمة ومختلفة، وفي ظل منافسة محتدمة بينها وبين دول عربية قررت التركيز على الإنتاج التلفزيوني، فزاد الاهتمام بالنوع على حساب الكمّ ولوحظ أن هناك انتقائية في الأعمال التي تطرح ملفات اجتماعية حيوية تمس وجدان شريحة كبيرة من الناس، وتعتمد على الأفكار الجذابة والتشويق في تسلسلها والغوص في التفاصيل والحبكة الفنية المتقنة.

ونجح المسلسل المصري “نقل عام” الذي عرضته محطة “أون” مؤخرا في تحقيق المعادلة السابقة.

ويتناول المسلسل قصة سائق أتوبيس يعمل في هيئة النقل العام المصرية، وثمانية من أبنائه وزوجة حالية وأخرى سابقة ووالدته العجوز المتشبثة بميراث كبير من المرارة حزنا على مصرع زوجها.

قضايا عديدة

مسلسل "نقل عام" أكد عدم حصر الأعمال الجيدة والقادرة على المنافسة في مجال الدراما في موسم رمضان الذي أصبح على الأبواب

من داخل هذه الأسرة تشعبت الأفكار، فالبعض اعتبر أن العمل يعالج قضية الانفجار السكاني في مصر ومخاطره، وهناك من رأى أن اختيار الناس لطريقة حياتهم هو المحور الأهم، ومن اعتقدوا أن تجارة الآثار حاضرة ويصعب تجاهلها، والواجب الوطني في وسطها، علاوة على ما أحدثته مواقع التواصل الاجتماعي من نهم مادي لدى شباب وفتيات والتغرير بهم.

ويستطيع من تابع المسلسل الذي قام ببطولته محمود حميدة وسوسن بدر ودينا وسميحة أيوب ومحسن محي الدين وإيهاب فهمي وأحمد بدير وريم البارودي وميريهان حسين واللبنانية نيكول سابا، أن يستشف كل هذه القضايا، وربما يجد زوايا أخرى لامسها.

وقد سهلت السلاسة التي ميزت المؤلف والسيناريست وليد خيري الوصول إلى جملة من القضايا الحياتية التي تطرق لها المسلسل من دون اللجوء إلى المباشرة الفجة أو الدخول في حوارات عبثية لا طائل منها.

ونجح المخرج عادل أديب في نقل الجوانب الجادة للجمهور بصورة فنية أضفت جاذبية واضحة أعادت بعضا ممن فكروا في الانسحاب لصالح المنصات ومواقع التواصل الاجتماعي التي استقطبت فئة ليست قليلة السنوات الماضية إلى التلفزيون.

وكان التحدي الرئيسي أمام صناع مسلسل “نقل عام” كيفية مواجهة هذه المعضلة، ولم يجدوا سوى التركيز على القيمة التي هجرها البعض وسط موجة من السرعة والاستخفاف بمعالجة القضايا التي تمس أوجاع المواطنين في مصر، والذين يبحثون دوما عمن يعكس نبضهم بلا تزلف أو مبالغة، فالنزول إلى الناس لا يعني التلاحم معهم في عيشتهم، بل الاهتمام بما يشغلهم ووضعهم على الطريق السليم.

ولعب اختيار طاقم التمثيل دورا مهما في توصيل رسائل “نقل عام” المتعددة، حيث دخل كل فنان وفنانة العمل كأنهم في سباق بين من يستطيع تجاوزه بلا تكلف وانفعال، والحصيلة أن غالبيتهم وربما جميعهم عبروا المضمار في النهاية بالتساوي تقريبا، مع الاعتراف بأن الفنان محمود حميدة كان المايسترو الذي عزف سيمفونيته المعهودة في التلقائية والقوة والرصانة والحنكة والمسؤولية وبدا نموذجا ملهما للكثير من الشباب الذين شاركوا في عمل ضخم ضم مايسترو حقيقيا هو راجح داوود، والذي تمكنت موسيقاه العذبة وما حملته من شجن في التعبير عن الأفكار الثرية التي حواها المسلسل.

دروس سهلة الاستيعاب
دروس سهلة الاستيعاب

وعندما يتواجد مؤلف مثل وليد خيري يعرف كيف ينتقي قضاياه ويجيد تقديمها للجمهور مع مخرج ذكي مثل عادل أديب يريد أن يترك بصمته على الدراما بعد غيابه أو عزوفه الفترة الماضية عن العمل، وبجوارهما راجح داوود ومجموعة من الفنانين الكبار والشباب، من الطبيعي أن يحصل العمل على شهادة نجاح لافتة من الجمهور، اعترف السيناريست خيري في أحد حواراته الصحافية أنه لم يتوقعها.

وما يهم في مسلسل “نقل عام” أنه أكد عدم حصر الأعمال الجيدة والقادرة على المنافسة في مجال الدراما في موسم رمضان الذي أصبح على الأبواب، فهناك من الأعمال ما يستحق المشاهدة خارجه، وربما يفوق بعضها ما يقدم في رمضان نفسه المزدحم بالمسلسلات من كل شكل ولون.

وتحتاج القضايا الاجتماعية العميقة قدرا كبيرا من التركيز لفهم مغزاها، ويصعب أن تصل أهدافها إلى المشاهدين عبر تقديمها وسط وجبة فنية دسمة كتلك التي تقدم في رمضان من كل عام، وكان توقيت عرض “نقل عام” جيدا على شاشة “أون”، ودخل في منافسة غير مباشرة مع مسلسل آخر لا يقل أهمية يعرض في التوقيت نفسه على شاشة “أم.دي.سي” وخاص بالجزء الثالث من المسلسل الاجتماعي “أبوالعروسة”، حيث وجد البعض من المشاهدين حيرة في أيهما يتابع.

وما يحسب لمسلسل “نقل عام” تمكنه من الجمع بين محاسن الدراما ووضعها في سلة واحدة، وفرت له التفوق، وهي إشارة على أن الأعمال الجيدة تلقى إقبالا جيدا ومهما قيل عن تراجع القيمة وسط السباق المحموم الذي يخوضه الناس وصراعهم اليومي في حيواتهم سوف تبقى في الضمير العام الذي يظهر ومضات إيجابية من حين إلى آخر من خلال ما يحويه عمل فني يعلي من شأنها، ويمكن اتخاذه بوصلة للتأكد من أنها لا تزال مطلوبة في المجتمع المصري.

الكلام في التفاصيل

قضايا مهمة ومختلفة
قضايا مهمة ومختلفة

تأتي قيمة “نقل عام” من الإشارات المتدرجة التي توقف عندها، ففي تفاصيل كل شخصية توجد معان وعبر يصعب تجاهلها، فإذا كانت شخصية البطل أحمد الشربيني التي جسدها الفنان محمود حميدة المحور أو الإطار الذي يندرج تحته الخط العام للعمل، فإن كل شخصية تضم من الرمزية ما يكفي لجعلها في مكانة البطل نفسه.

وظهرت التجليات في المفارقة التي حوتها المقارنة غير المباشرة بين شخصية سوسن بدر ودينا، فالأولى أم مسؤولة عن بنتين في غياب الزوج ونجحت في رعايتهما وتعليمهما حتى تخرجتا في كلية الطب، بينما الثانية أم مشغولة بالجن والعفاريت والسحر والشعوذة وأخفقت في تربية أبنائها الخمسة، أو الستة مع إضافة ابن شقيقتها الراحلة إليهم وقام بدوره الفنان محمد محمود عبدالعزيز وكان مصير بعضهم التشتت.

ويمكن أيضا التوقف عند مقارنة أخرى بين حياة أحمد الشربيني المنهك في عمله اليومي والمكافح لتربية أبنائه والقابع بين فكي والدته ورحى المسؤولية الأسرية الملقاة على عاتقه، وبين شقيقه المهندس عادل وجسد دوره باقتدار الفنان محسن محي الدين والذي انفصل عن والدته عندما رفضت زواجه ممن اختارها قلبه، وقد حملت التفاصيل الصغيرة في حياة الشقيقين جملة رسائل تؤكد أن مسألة الاختيار ليست هينة، لكنها في النهاية تخضع لتقديرات كل شخص.

ولم يكن المسلسل من الأعمال التي توصف بـ”المعلبة” مثل الوجبات الجاهزة المحفوظة أو تلك التي يتم تناولها سريعا والمعروفة بـ”التيك أواي” وتصيب البعض بأوجاع في معدتهم أو يواجهون صعوبة في هضمها، لأن القضايا التي تطرق لها دسمة وخفيفة في آن واحد، وهي قضايا دسمة في المضمون وخفيفة لسهولة استيعاب دروسها.

وتبقى هذه النوعية من الأعمال محفورة في الذاكرة ولا تغيب بمرور الزمن لأن فحواها مستمر ودائم ولا يرتبط بفترة زمنية حالية أو ماضوية، فالقضايا التي طرحها دائمة وإن تغير الزمن واختلفت شخوصه وتبدلت أولويات الناس، ولذلك فمن يضعون الفكرة نصب أعينهم وهم يقدمون أعمالا درامية لن يخسروا رهانهم مهما طال زمن.

15