"مستوطنة الأناركية".. رواية تسقط أفكار الأناركيين بالسخرية

لا تزال منتشرة تلك الدعوات إلى الأناركية والمجتمعات التي تنشد الحرية والعودة إلى الأصول ونحت كيانات اجتماعية جديدة تتحدى البنى الموجودة، دعوات تجد لها صدى لدى الكثيرين خاصة في الغرب، ولكنها تخفي في عمقها الكثير من التداعيات التي يكشفها بسخرية وجرأة الروائي التشيكي باتريك أورشادنيك.
يرسم الروائي التشكي المعروف باتريك أورشادنيك في روايته “مستوطنة الأناركية” صورة قاسية لملامح المجتمع الأوروبي في منتصف القرن التاسع عشر، وما حمله المجتمع آنذاك من انفصام في الفكر وتعدد الآراء والخروج عن كل ما هو مألوف، ليسقط عليها الصورة الراهنة، حيث كانت هناك المئات من المحاولات الطوباوية لمغامرين أوروبيين في القرن التاسع عشر سعت لتأسيس “مستوطنات حرة” بسياق اجتماعي مختلف عما كان عليه في أميركا الشمالية والجنوبية، وهو أمر يشكل حقيقة تاريخية، وقد حملت هذه المحاولات سمة واحدة مشتركة: رفض كل من الثورة السياسية التي بشر بها الشيوعيون والإصلاحية الاجتماعية التي سعى إليها الاشتراكيون.
في هذه الرواية التي ترجمها عن التشيكية الأكاديمي عمرو شطوري وصدرت عن دار العربي، مجموعة رسائل منها رسالة لأناركي إيطالي يرسلها إلى عشيقته السابقة النبيلة بعد أن قرر أن يرحل إلى البرازيل ويرفض أي شكل للتطورات التي يتعرض لها المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر، من عصر التنوير إلى الإصلاح الاجتماعي إلى الثورة الشيوعية. وقد ساهم في نشر الإعلان عن الهجرة لتأسيس مستوطنة حرة في البرازيل. ومن هنا تبدأ رحلته إلى مستوطنة الأحلام تلك. بالعودة إلى عام 1855، يتذكر كل ما مر به من أحداث كئيبة ومرحة على متن السفينة، وكيف انخرط مع مجموعة كبيرة ومتنوعة من الجنسيات المختلفة، محاولين إيجاد وسيلة للتواصل ولإرساء قواعد مجتمعهم الجديد قبل وبعد الوصول.
نصان مختلفان
الرواية نصان متناقضان على لسان راويين مختلفين وتدور أحداثها مباشرة في التاريخ، الأول يأتي في شكل رسالة منمقة للأناركي الإيطالي يخاطب فيها حبيبته السابقة، التي انفصلت عنه ذات مرة، ولم يتعاف تماما من عذاب فقدها، كتبها عام 1902 يعترف فيها بحبه لها، ويناقش قضية تنظيم المجتمع البشري، مؤكدا على الطابع المأساوي للإنسان في العالم، ويعترف بفشل محاولاته لإقامة مستوطنة في أميركا الجنوبية، كان يأمل أن يعيش فيها الناس بطريقة متساوية من دون الأخلاق القديمة والتحيزات الدينية والنظم التقليدية. الرسالة متحررة من معارفه كمثقف برجوازي، مليئة بالسخرية، والتوازنات اللغوية، والتي من خلالها يقوم الناس أحيانا بتسوية الحسابات مع العالم أو تأكيد تفردهم.
والنص الثاني مكتوب بلغة تذكرنا بسجلات بسيطة لبيانات حول أشياء عادية، كتبها أحد المستوطنين موثقا فيها تفكك مستوطنة الحرية وفشلها، ونرى فيه الفجوة الكبيرة في التعليم وفهم العالم بين راويي النصين، فالأول متعلم وذكي، والثاني يفتقر إلى فائض من العقل. لكن أورشادنيك تمكن من جعل كلا الراويين معقولين تماما، حيث جعل العنصر الهزلي في الرواية هو ما يمثل وجهة النظر المختلفة حول نفس الأفكار أولا في شكلها النظري وثانيا في الممارسة.
في النص الأول يتم وصف أحداث الرحلة البحرية، حيث يبحر هؤلاء الأوروبيون من جنسيات مختلفة إلى البرازيل ويتفاوضون على الظروف التي تعمل فيها المستوطنة، المجردة من جميع سمات المجتمع الرأسمالي. إنهم جميعا يسترشدون بحسن نياتهم وقناعاتهم، وتثير خطاباتهم العديد من اللحظات الكوميدية عندما يجدون صعوبة في إيجاد أرضية مشتركة.
يناقش المسافرون ما إذا كان، مثلا، يمكن السماح للسود بالدخول إلى المستوطنة، وكيفية تنظيم الحب الحر، عندما تكون المرأة في الواقع كائنا حرا تماما، لكنها في الوقت نفسه لا تريد دائما تحقيق الحب الحر، الأمر الذي يقوض مرة أخرى المثل الأناركية.
وفي الثاني هناك أربع شهادات متغيرة، لكنها متطابقة بشكل أساسي عن الاتجاه الذي كان مشروع المستوطنة يسير فيه بعد ستة أشهر من الإقامة. بينما يمثل المثقف والفوضوي الفكرة المثالية لحياة جديدة في شكلها النقي، يصف المغامر الإيطالي المشاركين في الحملة بكل الأعراف القديمة التي يجلبونها معهم من أوروبا، حيث يتضح أن أفكار الملكية المشتركة والعمل المشترك والنساء العاديات قد دمرتها الصفات الإنسانية العادية مثل الكسل والجشع وإحجام النساء عن أن يكون لديهن شركاء متعددون. وهكذا يحكم على المشروع بالفشل، وليس من المستغرب أنه من خلال الخروج عن التقاليد، لن يجد المستوطنون سوى الإرهاق والانحدار العام في القيم بدلا من الجنة المنشودة.
السخرية من الطوباوية
يركز أورشادنيك الانتباه على الوعي الجماعي والمعرفة، لكن المعرفة المرتبطة بالسخرية على الآراء العلمية النسبية. ففي 1855، يذهب برؤيته خطوة إلى الأمام ليسقط إياها على الآني ومفهوم الحرية لدى الأروبيين، ويصور مشكلة الحرية لدى الأوروبيين حيث يظهرهم في هذه الفترة من تاريخهم 1855 ـ 1902 غير قادرين على الاتفاق حتى على أبسط الأشياء، ناهيك عن أن يكونوا قادرين على التصرف بحرية تجاه بعضهم البعض.
هذا هو المكان/ المستوطنة المناسب لإظهار الجانب الهزلي المجرب والمختبر للحرية في المجتمع الأوروبي، حيث يتجادل المستوطنون بشكل تافه حول المسائل المادية أو الأيديولوجيات الزائفة. ومع اقتراب رحلتهم من البر الرئيسي، يصبحون غارقين في تناقضات خاضعة للتفكير التقليدي إلى درجة أن هؤلاء الناس من الواضح أنهم لا يستطيعون تحرير أنفسهم من أغلال عدم الحرية المحتملة، حتى لو انتقلوا إلى جزيرة بعيدة قدر الإمكان عن أوروبا القوية.
هذه هي الطريقة التي فسر بها أورشادنيك تصرفات المستوطنين، خاصة من وجهة نظر المثقف والفوضوي، الراوي الأول، ومع ذلك، فإن عالم هذا المثقف الروحي وإيمانه الذي لا يتزعزع بإنسانية الإجراءات المستقبلية، قد استسلم لمشاعر سيدة من مجتمع آخر، ربما أعلى. وكما قيل بالفعل، الآن (1902)، بعد سنوات من الانفصال، استسلم لـ”نزواتها” وكتب تلك الرسالة بناء على طلبها.
بالنهاية تمثل الرواية نصا مناهضا للطوباوية مبنيا على الانقسام الهزلي للرواة. وعلى الرغم من أن نص الرسالة الأولى يقع في عام 1902، إلا أنه يتداخل مع الحاضر من حيث لا تزال أفكار الشيوعية والأناركية والاشتراكية حية في المجتمع الأوروبي، فيما يشهد عام 1855 على الفشل التام لأفكار مماثلة في الممارسة العملية.
ويذكر أن باتريك أورشادنيك يعيش في باريس منذ عام 1985، ولد في براغ في الثالث والعشرين من أبريل 1957. وبعد الانتهاء من تعليمه الأساسي عمل مساعدا في مكتبة، ومساعد أرشيف، ورجل مستودع، وساعي بريد، وعاملا، ورجل إسعاف. من 1974 إلى 1976 درس التمثيل والإخراج في مدرسة الفنون الشعبية في براغ. في عام 1985 هاجر إلى فرنسا. يترجم من الفرنسية إلى التشيكية ومن التشيكية إلى الفرنسية. حصل على عدد من الجوائز الأدبية عن كتاباته، بما في ذلك جائزة الصندوق الأدبي التشيكي.
