مسار التنمية الضائع في العراق يفرض تطبيق إصلاحات لا تحظى بشعبية

الفساد والصراعات بين النخب والعقبات البيروقراطية تعيق تنفيذ خطط الاستثمارات.
الثلاثاء 2024/05/14
المصالح السياسية تعطل طموحات التنمية

العراق يواجه تحديات مؤسساتية ومالية تشكل حواجز أمام مساعي التنمية رغم العائدات النفطية الضخمة. ولا يزال القطاع العام غير المنتج يستأثر بنصيب الأسد من موارد بغداد المالية.

بغداد - في الشهر الماضي، أعلنت مجموعة من النواب والمسؤولين الحكوميين وممثلي الشركات الخاصة والمنظمات غير الحكومية في العراق عن تشكيل “تحالف بغداد لدعم القطاع الخاص”.

وتهدف هذه المبادرة التي تُشبه العديد من الإستراتيجيات والخطط التنموية الحكومية السابقة التي لم تتحقق، إلى تعزيز تنمية القطاع الخاص، على أمل تسريع النمو الاقتصادي المستدام في العراق.

ويرى محمد حسين وهو باحث وخبير اقتصادي مقيم في كردستان في تقرير نشره معهد واشنطن أنه على الرغم من توافق هذه الأهداف مع طموحات برامج حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني التي تركز على تعزيز المشاريع الخاصة وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، ستبقى غير واقعية ما لم تتوافق مع مجموعة من الإصلاحات المالية والتنظيمية الشاملة.

وتاريخيًا، ليست هذه المرة الأولى التي تكتسب فيها تنمية القطاع الخاص زخمًا سياسيًا، حيث لعبت دوراً رئيسياً في الكثير من إستراتيجيات وخطط الحكومة الاتحادية العراقية منذ عام 2006.

ومن أمثلة ذلك إستراتيجيات التنمية الوطنية (2005 - 2007 و2007 - 2010)، وخطط التنمية الوطنية (2010، 2013 - 2017 و2018 - 2022).   

وقد قدمت الكثير من المنظمات الدولية والبلدان المانحة والهيئات الأكاديمية والمنظمات غير الحكومية المحلية دعمها للحكومة الاتحادية العراقية لمتابعة هذا المسار التنموي. كما أن تنمية القطاع الخاص تشكل ركيزة لغالبية الخطط والسياسات الإستراتيجية التي تهدف إلى تنويع اقتصاد العراق وتقليل اعتماده على صادرات النفط الخام، التي لا تزال تشكل 93 في المئة من إيرادات الدولة في عام 2023.

وكذلك، يساعد طرح مشروع ” طريق التنمية” بهدف جذب رأس المال الأجنبي والمستثمرين والخبرات الأجنبية، على تحديد الأولويات بوضوح.

ونظرًا للاقتصاد الريعي في العراق، تنبغي معالجة الاختلالات الهيكلية المتأصلة. فالقطاع الخاص في العراق ضعيف ومتخلف ويعتمد بشكل كبير على المشاريع التي تمولها الدولة. لكن القيود المؤسساتية، والتحديات المالية، والفساد المستشري، وأوجه القصور في الحكم، تشكل حواجز هائلة أمام هذه المساعي التنموية.

ما الذي يعيق حلم التنمية؟

خطط التنمية في العراق ستبقى غير واقعية ما لم تتوافق مع مجموعة من الإصلاحات المالية والتنظيمية الشاملة

على الصعيد المالي، تواصل حكومة السوداني الاتجاه المالي الذي ساد بعد عام 2003 ويتميز بنهج ريعي حيث يتم تخصيص حصة الأسد من موارد الدولة، الناتجة من صادرات النفط الخام، لدفع الرواتب، ما يترك حصة ضئيلة للاستثمارات في البنية التحتية والتنمية.

وتتركز معظم هذه الرواتب في قطاعات غير منتجة اقتصاديًا مثل الجيش والأمن ومؤسسات الأوقاف الدينية والكثير من الشركات المملوكة للدولة التي توقفت عن العمل، ولكنها لا تزال تحصل على جزء من أموال الرواتب كوسيلة للتخفيف من ارتفاع معدلات البطالة.

وفي الكثير من الحالات، يتم توظيف الأموال العامة بشكل أساسي لضمان ولاء الناخبين للنخبة الحاكمة على حساب البنية التحتية والمؤسسات الخدماتية.

ويعكس نمط الإنفاق الحكومي لعام 2023 هذا الاتجاه المالي. وتظل النفقات الاستثمارية في القطاعات الرئيسية التي تقدم فرص العمل، وتوفر إمكانات لتنمية القطاع الخاص، متواضعة.

ويمكن تقييم التزامات الحكومة العراقية تجاه إستراتيجياتها التنموية بطريقة أخرى تتمثل في دراسة الاستثمارات العامة في القطاعات التي لديها القدرة على توفير فرص العمل، وتنمية الموارد البشرية، وتحسين بيئة تمكين الأعمال. فتقييم إنفاق الحكومة العراقية على الصناعات غير النفطية يكشف عن قصور صارخ في الالتزام بإستراتيجياتها وأهدافها التنموية.

ورغم أنه من الأفضل أن تتولى الشركات الخاصة قيادة هذه الصناعات في الظروف المثالية، إلا أن الشركات المملوكة للدولة تلعب دورًا تكميليًّا من خلال توفير المواد الخام وغيرها من أشكال الدعم لأنشطة القطاع الخاص، على الأقل لفترة من الوقت حتى تتم خصخصتها.

طرح مشروع "طريق التنمية" يساعد بهدف جذب رأس المال الأجنبي والمستثمرين والخبرات الأجنبية، على تحديد الأولويات بوضوح

وتشير الأرقام إلى أن الحكومة الحالية قلصت الاستثمار في الصناعات غير النفطية، بما يتعارض مع أهدافها المعلنة.

وخلال سنوات الازدهار التي شهدها العراق، والتي اتسمت بارتفاع أسعار النفط العالمية وما نتج عنها من مكاسب غير متوقعة، كان هناك مجال واسع لزيادة الاستثمار العام. لكن معظم هذه الاستثمارات في عام 2023 كانت موجهة نحو قطاع النفط الذي يوفر إمكانات محدودة للغاية لتوفير فرص العمل.

وكان من المفترض أن يستحوذ الاستثمار في الصناعات غير النفطية على الجزء الأكبر من مخصصات الاستثمار العام في عام 2023 كوسيلة لتحفيز النمو المستدام، وذلك وفقًا لبرنامج مجلس الوزراء بالإضافة إلى إستراتيجيات وخطط التنمية المختلفة التي وضعتها الحكومة الفيدرالية.

وتطرح الإصلاحات السياسية الضرورية تحديات هائلة، فالمقاربات الشعبوية التي تتبناها الطبقة الحاكمة والتي لا تنم عن بعد نظر هي مجرد واحدة منها.

ونظرًا للتحديات المالية والاقتصادية السائدة، تظل تنمية القطاع الخاص مهمة شاقة. فقد فشلت الكثير من المساعي المتعلقة بالسياسات والمبادرات الإستراتيجية التي قامت بها الحكومات العراقية السابقة في سبيل هذا الهدف في تحقيق نتائج ملموسة.

وتواجه حكومة رئيس الوزراء السوداني عوائق مماثلة لتلك التي واجهتها سابقاتها. وكما يتضح من السياسة المالية وقانون الموازنة الممتد على ثلاث سنوات، ما من تخصيص كافٍ للاستثمارات لتحقيق الأهداف التنموية. ونتيجة تصاعد الشعبوية، تجاهلت الطبقة الحاكمة وحكوماتها اللاحقة بعض الإستراتيجيات والخطط التنموية الوطنية سعيًا لتحقيق مكاسب انتخابية قصيرة المدى.

وعلى الرغم من الاستفادة من المكاسب النفطية غير المتوقعة الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط في السنوات الأخيرة، أعاق الفساد والصراعات بين النخب والعقبات البيروقراطية تنفيذ الإنفاق الاستثماري المخطط له والمحدد في قانون موازنة عام 2023. فقد صرفت الحكومة حوالي 24 تريليون دينار (48 في المئة) من مبلغ 50 مليار دينار المخطط له للإنفاق الاستثماري والتنموي. كما خصصت ما نسبته 60 في المئة من إجمالي الإنفاق المخطط له والبالغ 118 تريليون دينار من أصل 198 تريليون. وتؤكد هذه الأرقام عدم التزام الحكومة بأهدافها التنموية.

ومن غير المرجح أن تتمكن الحكومة العراقية الحالية من تجاوز هذه التحديات من دون تبني نهج إستراتيجي أكثر ذكاءً.

ويشكل تغيير هذه السياسة المالية المتجذرة تحديًا بالنسبة إلى هذه الحكومة تمامًا مثل سابقاتها. فقد تجاوزت النفقات على الرواتب والمعاشات والدعم لموظفي القطاع العام في عام 2023، 72 تريليون دينار، ما يمثل 61 في المئة من إجمالي النفقات الحكومية. ومن المتوقع أن تنمو كشوفات الرواتب العامة المتضخمة بشكل أكبر مع اعتزام الحكومة توظيف مليون موظف جديد لمعالجة مشكلة البطالة الوطنية.

وبشكل عام، لا تزال بيئة الأعمال في العراق تتسم بالضعف، مما يعرقل نمو القطاع الخاص ويعوق الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل كبير.

كسر الحلقة المفرغة

Thumbnail

يشكل تدفق الإيرادات النفطية الداء والعلاج في الوقت عينه لمعضلة العراق الاقتصادية. فعندما تنخفض أسعار النفط بشكل دوري، يواجه العراق صدمات اقتصادية حادة، ولكن يمكن التنبؤ بها.

وخلال العقد الماضي، شكلت الإيرادات النفطية 99 في المئة من صادرات العراق، و85 في المئة من الميزانيات الحكومية، و42 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وفي ظل مستويات الإنتاج والتصدير الحالية، يُتَرْجَم انخفاضُ ما نسبته دولار واحد في أسعار النفط العالمية بخسارة سنوية في الإيرادات بقيمة 1.23 مليار دولار للعراق.

وبنتيجة ذلك، يظل تحفيز النمو الاقتصادي واستدامته، وهما المحركان الرئيسيان للتنمية، خارجَين عن سيطرة العراق إلى حد كبير، إذ يتأثران بتقلب أسعار النفط في الأسواق الدولية.

وإلى جانب عدم الاستقرار المالي الناجم عن تقلبات أسعار النفط، حددت الوفرة العامة في الإيرادات النفطية معالم المشهد الاقتصادي في العراق، وأثرت في سلوك النخبة الحاكمة، وعرّضت الأمة للأعراض التقليدية للمرض.

اقرأ أيضا:

ولتغيير هذا المسار، تحتاج الحكومة العراقية إلى تنفيذ سلسلة من الإصلاحات المالية التي يمكن أن تدفع باتجاه تعزيز التنمية الاقتصادية.

ومن شأن تنشيط قطاعات الصناعة والزراعة والمواصلات والسياحة، التي تؤدي في نهاية المطاف إلى التنويع الاقتصادي، أن يعزز القدرة على الصمود في مواجهة الصدمات الناجمة عن التقلبات الدورية في أسعار النفط وأن يمهد الطريق للنمو المستدام.

وفي ظل هذه الظروف، يمكن أن تبرز تنمية القطاع الخاص كطموح عملي وحل للاختلالات الهيكلية في العراق.

وتشكل البنية التحتية المادية القوية أيضًا استثمارًا ضروريًا وأحد الشروط المسبقة لأي نجاح تنموي، بحيث تتطلب إصلاح أو إنشاء الطرق والجسور ومحطات الطاقة والشبكات التي يمكنها دعم الاقتصاد الخاص المتنامي. ونظرًا لندرة موارد العراق، ستظل الاستثمارات المنشودة بعيدة المنال ما لم تتم زيادة إيرادات الدولة أو إعادة ضبط السياسات المالية للحد من النفقات الجارية وتخصيص المزيد للاستثمارات في البنية التحتية.

ومن الضرورات الأخرى وضع إستراتيجية للتغلب على التعقيدات السياسية المرتبطة بنموذج المحاصصة المعتمد لتشكيل الحكومة التوافقية في العراق. فترتيب تقاسم السلطة هذا يوزع مناصب حكومية رئيسية على الأحزاب السياسية التي تمثل العرب الشيعة، والعرب السنّة، والأكراد على أساس الأغلبية الانتخابية.

ويجب أن تؤدي الإصلاحات الضرورية لدعم التحول الاقتصادي الذي يدعمه السوداني إلى تحول جذري نحو إعطاء الأولوية لاستثمارات البنية التحتية على حساب النفقات المتكررة، ما يضع حدًا للاتجاه المالي الذي اتبعته جميع الحكومات العراقية بعد عام 2003، بما في ذلك حكومة إقليم كردستان.

وفي حين أن هذه العملية ليست سهلة ولا تلقى ترحيبًا سياسيًا بغض النظر عن مدى الحاجة إليها لتحقيق نتائج تنموية أفضل، وقد شكلت إحدى العقبات الرئيسية أمام المحاولات السابقة، إلا أنه لا بد من معالجتها قبل أن يتمكن العراق من تحقيق “حلم التنمية”.

6