مزارع فلسطيني يحفظ البذور المحلية في بنك

غزة (فلسطين)- يتفقّد المزارع سلامة مهنا، العبوات التي احتفظ فيها بأنواعٍ من البذور النباتية البلدية، قبل أن يقرر اختيار الصنف الجديد الذي سيجري عليه الاختبارات خلال الموسم القادم، ليرى مدى قدرة أرضه على مقاومة التغيرات المناخية، وفحص جودة محصوله.
يفكر الرجل الستيني كثيرا قبل تحديد الصنف، لكونه يعيش في الفترة الحالية تحديا مع نفسه ومحيطه، يسعى أن يكون قادرا خلاله على إقناع الجميع بأهمية فكرة “بنك البذور الوطني”، الذي أقدم على تأسيسه بالتعاون مع الصليب الأحمر، الذي منحه تمويلا قبل عدّة أشهر.
يقول مهنا الذي يسكن منطقة القرارة الحدودية الواقعة شرقي محافظة خان يونس جنوب قطاع غزّة، “كثيرا ما تابعت الأنشطة التي يقوم بها بنك البذور في الضفة الغربية، وكنت معجبا بالدور الوطني الذي يؤديه للحفاظ على التراث الفلسطيني، من خلال دعم المزارعين بالحبوب الأصلية القوية”.
وبيّن أنّ الأسباب التي تقف وراء إنشاء هذا المشروع كثيرة، لكنّ أهمها هو الحفاظ على البذرة الوطنية الأصلية، التي كان يزرعها الآباء والأجداد، وكذلك إنه يهدف إلى التقليل من عملية استيراد البذور المهجنة وراثيا، والتي تعتبر مكلفة ماديا ولا تناسب كلّ أنماط وعوامل التغير البيئي.
فكرة بنك البذور موجودة في معظم دول العالم، وتعتبر بمثابة مؤسسة وطنية، تعمل على حفظ البذور وصونها لأنها تعتبر شاهدا على تاريخ الشعوب
لم يكن المزارع الفلسطيني يعرف البذور الصناعية المستوردة، وكان يعتمد في جل إنتاجه على البذور البلدية التي كانت تحقق نوعا من الاكتفاء الذاتي والسيادة على الغذاء في بلده.
ولم يدم هذا الحال طويلا إلى أن ظهرت سطوة الشركات العالمية المنتجة للبذور الدخيلة، دون وجود أي سياسات رسمية تحمي الموروث الفلسطيني وتحدُّ من تدخل هذه الشركات. يقول مهنا، إن البذور المهجنة كذلك “قصيرة النفس”، بمعنى أنها تزرع لمرة واحدة في العام، ولا يتمكن المزارعون من استقطاع بذور أخرى منها، لاستخدامها في المواسم التالية، وبالتالي يحتاج المزارع في كل موسم جديد إلى شراء بذور جديدة وما يلزمها من كيمياويات زراعية.
يقول، “على عكس البذور البلدية، التي يمكن زراعتها على مدار سنوات كثيرة تزيد على العشر أحيانا، وتعطي الإنتاج بنفس المستوى والكمية، وفي أحيان يزداد إذا ما توفرت ظروف أفضل للإنبات”.
وتراجعت البذور البلدية إلى درجة شارفت فيها على الانقراض، وباتت عمليات الإنتاج الزراعي رهينة للشركات العالمية التي أغرقت فلسطين كما الكثير من الدول حول العالم بالبذور المهجنة.
والنباتات النامية من البذور المهجنة أو الصناعية تسبب تآكلا متواصلا في خصوبة التربة وتحتاج إلى الكثير من المياه في الري، بينما البذور البلدية تستهلك كميات أقل، “كما أنّ إنتاج الأخيرة يزيد عن الأولى بنسبة تتجاوز الـ20 في المئة أحيانا”، .
وأمام هذا المشهد، ظهرت على السطح مبادرة المزارع سلامة مهنا لإحياء البذور الأصلية لهذا البلد إيمانا بأهميتها في تحقيق السيادة على الغذاء. ويضم بنك البذور، مجموعة واسعة من الأصناف التي تزرع في السوق المحلية، منها السبانخ والشومر والبقدونس والبطاطا وعين الجرادة والسَلق والقمح.
وفي ما يتعلق بكيفية جمعه للبذور والكميات التي يحتفظ بها، يروي مهنا “بعض البذور أنبتناها هنا في قطاع غزّة، والآخر حرصنا على جلبه من البنك المركزي الذي يمدّ محافظات الضفة الغربية بالبذور”.
ويمارس البنك، خيار إقراض البذور للمزارعين الآخرين بهدف تنمية الزراعة العضوية بالبذور الطبيعية، ويتعهد المقترض بإعادتها إلى البنك فور أن ينضج محصوله، ويكون قادرا على استقطاع البذور منه.
المهندس محمد حسين، المتابع للمشروع من الناحية التقنية والمعلوماتية يقول، إن البنك يختص حاليا بمنطقة القرارة، وفكرته جاءت للتغلب على التقلبات المناخية التي لا تتمكن البذور المهجنة على تحملها. ويتابع وهو خبيرٌ في مجال إدارة الآفات، “جمعنا البذور بعدما قمنا بجولة استهدفت معظم الأماكن في قطاع غزّة، تعرفنا خلالها على طبيعة الحبوب المستخدمة لدى المزارعين، وأجرينا تجربة زراعية على مساحة صغيرة. فوجدنا زيادة ملحوظة في الإنتاج لدى البذور الطبيعية”.
والفرق الواضح الذي يمكن ملاحظته كذلك، هو جودة المنتج والقيم الغذائية العالية التي تحملها البذرة الطبيعية، بحسب كلامه، وينبّه إلى أنّ بعض النباتات التي تُزرع على الطريقة التقليدية تُوصف كعلاج محليّ لكثير من الأمراض.
ويضيف حسين، “فائدة أخرى يمكن أن يحصل عليها المزارعون المعتمدون على البذور البلدية الطبيعية، التي تمتاز بصلابتها وتحملها لمختلف الظروف ومقاومتها للحشرات، وهي التوفير للفلاحين في شراء الأسمدة والأدوية الكيمياوية”.
فكرة بنك البذور موجودة في معظم دول العالم، وتعتبر بمثابة مؤسسة وطنية، تعمل على حفظ البذور وصونها لأنها تعتبر شاهدا على تاريخ الشعوب. وفي غزّة يقول مهنا، “البنك يعتبر أسلوبا لمقاومة الاحتلال الذي سرق خلال السنوات الماضية، معظم الأصناف الزراعية الفلسطينية ونسبها لنفسه ولدولته المزعومة”.