مرآة البشرية لا تكذب وكذلك الفن التشكيلي

ليس وباء كورونا متميزا عن باقي الأوبئة التي عرفتها البشرية التي ما حطت وعبرت، إلاّ وأحدثت تحوّلا هائلا في مجمل مرافق الحياة.
الجمعة 2020/03/20
فايروس كوفيد – 19: أعاد ابتكار لغة جديدة للفن

عندما وقف الشاعر والرسام جون كوكتو في مكان مغلق أمام مرآة في فيلمه الشهير “دم الشاعر”، لم يرد أن يرى انعكاسا لمظهره السطحي، ولا أن يرى تجلّيا للحاضر المعيش المنزوع عن ماضيه والمتحرّر من مستقبله. بل أراد أن يمارس عزلته عن الآخرين ليخوض حوارا هادئا وبطيئا مع كابوس غامر على أنه عالم الحقيقة التي ملَّت من الاختفاء تحت معارك الحياة اليومية والمادية والمُتسارعة.

وعندما “اعترضته” المرآة وأغوته فدخل إليها، وجد نفسه في تماس مباشر مع هواجسه القديمة قدم البشرية، ومع كوابيسه الفردية كفنان.

على هذا النحو وجد نفسه الإنسان المعاصر في تماس مع فايروس كوفيد – 19، كمرآة مفضية إلى كل أنواع الكوابيس البشرية، تلك التي اعتقد أنه سيطر عليها، وتلك التي تجاهلها، وتلك التي لا زالت تقضّ مضجعه وزوايا مختبراته العلمية والتكنولوجية الأكثر تقدّما.

انتقل الإنسان من هاجس إلى آخر عاريا من كل الأسلحة التي ابتكرها كي يكون سيد العالم. عالم لفظه عند لحظة انتشار الوباء الذي شكّل مدخلا إلى كوابيسه العميقة النامية جنبا إلى جنب انحلال القيم الإنسانية وهوس السلطة والجشع الكاسح لكل المعايير.

تنفسّت الكرة الأرضية الصعداء، وقالت كلمتها فوق كلمة البشر وانعكس ذلك انخفاضا مهولا في نسبة التلوث. وكما انتقل الشاعر – الفنان من غرفة إلى أخرى داخل المرآة، دخل الإنسان الشامل بعمره وجنسه وجنسيته وانتماءاته المختلفة إلى غرف وجوده المتباعدة زمنيا ومكانيا بسهولة انتقاله من قارة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، في ظل عولمة تكشفت عن باب عتيق من أبواب الجحيم.

بات إنسان اليوم يعيش الالتصاق ما بين الخيالي والمادي، و بين اليومي – العادي، والمفتوح على معنى الحياة والعدم والرعب من الانقراض. وتجيء الفنون التشكيلية اليوم، كما سلفها من فنون، لتُمسك بأدواتها الخاصة ولترسم معالم هذا العالم المتصدّع الذائب في كابوس العدمية وتلاشي الحدود وذوبان الخصوصية الثقافية.

اليوم باتت الأعمال الفنية الماضية التي تصوّر ليس الجحيم ولكن هشاشة الإنسان، وتجسّد الرعب الخارج عن المنطق وعن السيطرة أكثر واقعية من اللوحات التي تنتمي إلى المدرسة الواقعية والطبيعية.

ليس وباء كورونا متميزا عن باقي الأوبئة التي عرفتها البشرية التي ما حطت وعبرت، إلاّ وأحدثت تحوّلا هائلا في مجمل مرافق الحياة.

وبناء على تلك التحوّلات جاءت الأعمال الفنية لتضع النقاط على الحروف وتحفّز الاكتشافات العلمية والطبية، لا بل لترسي قواعد جمالية جديدة.

نذكر في هذا السياق ما حصل ماضيا في فترة انتشار مرض السل الذي كان وباء بدّل ديموغرافية أوروبا، وصار ينظر إليه من خلال أعمال فناني ما قبل الرافيئلية الإيطالية، على أنه مرض النخبة والفنانين والرائيين. مرض اعتبر “جميلا” ووجد طريقه إلى لوحات شهيرة ظهرت فيها النساء جميلات بوجوههنّ المُرمّدة وشديدة الشحوب.

اليوم، يقف الفنانون التشكيليون أمام فايروس كوفيد – 19، وكأنهم أمام مرآة البشرية جمعاء، كل منهم مدعوم بأسلوب قراءته الخاصة وبتفكيك بنائيتة للمعاني المطروحة، ليجسدوا ما آلت إليه الإنسانية مظهرين جوانبها المظلمة والمنيرة على السواء.

مُتوقّع وبشكل مؤكّد بأن يعمد الفنانون، وهم بالفعل قد بدأوا، إلى استكمال ما وضعه رسامو الجحيم والموت الجماعي من القرون الفائتة من كشف لحقيقة الإنسان بما ارتكب من جرائم، وما يقدّمه اليوم تحت وقع صدمة انتشار الفايروس في العالم أجمع من تعاطف مع “أخيه” البشري الذي أصبح فجأة شريكه في مكافحة فايروس قاتل لا يُميّز بين إنسان وآخر.

ربما هذه هي أول مرة في تاريخ البشرية المعاصرة ندرك فيها أننا لسنا ملزمين بإنتاج الكماليات واستهلاكها بالشكل الجنوني الذي اعتدنا عليه.

بات البطء في أسلوب العيش حقيقة عُدنا إلى الالتزام بقواعدها، رويدا رويدا، وعن طيب خاطر. وصرنا ملزمين بابتكار وسائل التسلية، بعيدا عن بهرجة الاحتفالات وسهرات النوادي الليلية وضوضائها، في مجتمعاتنا الضيقة التي لا تضم إلاّ الأهل وأقرب الأصدقاء.

تجدر الآن إعادة النظر بنضج أكبر واستيعاب أكبر في خطورة ما تقدّمه لوحات معاصرة تنقر على وتر الجراح الحديثة والمُستحدثة، كتلك التي قدّمها الفنان الأميركي أليكس غروس الذي صوّر الشعور الحاد بالملل الوجودي والوحدة وسط الجماعة، والآثار السلبية للعولمة، وتلوّث البيئة الطبيعية والمدينية، وآفات المجتمع الاستهلاكي، لاسيما على الأحداث في السن، دون أن ينسى التطرّق إلى مطامع الدول بثروات بعضها البعض بجشع لم يعهده التاريخ البشري من قبل.

وربما اليوم فقط يستطيع الإنسان التمعّن في ما قاله الفنان الفرنسي بابلو بيكاسو بأن “الفن هو كذبة تقول الحقيقة”. وفي كلامه هذا دعوة للأخذ بجنون ولا معقولية ما يقدّمه الفن من مشاهد، لأنه الحقيقة الموحشة والمتحدثة عن أهوال الجنس البشري والأوبئة الخارجة منه وإليه.

17