مذكرات الساسة العرب تُطمس بحجة الأمن القومي

شكلت كتابة مذكرات القادة والسياسيين مثار جدل واسع في العالم العربي على مدار عقود، وبقي الكثير من الأحداث والشهادات حبيس الأدراج لأسباب بدت مجهولة. لكن هذه الشهادات أدرجت ضمن خانة الحفاظ على أسرار الدولة. فما الذي يمنع الساسة من نشر مذكراتهم كاملة وتقديم المساعدة على كتابة التاريخ بكل تفاصيله وحقائقه؟ فهل تستوجب كتابة المذكرات ونشرها إذنا رسميّا؟
"هناك العديد من الحكايات التي لا يُمكن نشرها لأنها تدخل ضمن أسرار الدولة"، حديث شخصي لأمين عام جامعة الدول العربية الحالي ووزير الخارجية المصري الأسبق أحمد أبوالغيط، الذي نشر مذكراته في كتابين، حمل أحدهما شهادته عن الحرب والسلام مع إسرائيل، والآخر عن عمله كوزير للخارجية خلال الفترة من 2004 إلى 2011.
ورغم ما أورده أبوالغيط في الكتابين من حكايات ومواقف مهمة إلا أن هناك الكثير من الحكايات امتنع عن نشرها لأسباب تتعلق بالأمن القومي وأسرار الدولة.
وتفتح كتابة المذكرات العديد من التساؤلات حول حدود شهادات المسؤولين السياسيين في العالم العربي، وما هو مسموح وممنوع الإشارة إليه؟ وكيف يتم تحديد الأطر الحاكمة لذلك؟ وما هي المعايير المتبعة لقياس حساسية أمر أو موقف ما؟ وهل تستوجب كتابة المذكرات ونشرها استئذان الجهات الرسمية؟ وكيف يمكن الوثوق في التاريخ المحكي، حيث هناك الكثير من الحكايات ما يزال محجوبا ومجهولا؟
وأثارت بعض المذكرات السياسية العربية التي كتبت أو أفرج عنها، أو تلك التي تضمنتها بعض البرامج الفضائية، أزمات حادة وصلت إلى ساحات القضاء، كما أن مذكرات الأبطال الحقيقيين للأحداث لم تُشبع شغف جمهور المعرفة للوقوف على الصورة الكاملة لما جرى، بسبب سد منيع يطلق عليه “اعتبارات الأمن القومي”.
ويرى خبراء أن مسألة كتابة الأحداث كاملة في مذكرات السياسيين نسبية وتختلف من دولة إلى أخرى، ومن عهد إلى آخر. وهناك شبه اتفاق على أن اعتبارات الأمن القومي هي أساس حاكم في أي شهادة لمسؤول سياسي في العالم العربي.
ويقول جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان في جنوب القاهرة لـ”العرب”، إن التاريخ السياسي المدون في العالم العربي نسبي، لأن المسموح بنشره يختلف من زمان إلى آخر، وثمة تناقضات عديدة في شهادات الكثير من المسؤولين السياسيين بشأن الحدث الواحد.
ويوضح عودة أن السلطة الأعلى الممثلة في رئيس الدولة أو القائد الأعلى للقوات المسلحة، في معظم البلدان هي المسؤولة عن تحديد ما يمكن اعتباره أسرارا حربية أو سياسية تمس من الأمن القومي للبلاد أم لا، ما يعني أنه من المنطقي استئذان تلك السلطة في تقديم شهادة تبدو حساسة.
روايات مبتورة
تعرضت بعض الشهادات للبتر وطمست بعض الحقائق تحت سيف أسرار الدولة، وبدت مذكرات بعض الساسة منقوصة وغير جديرة بشغف الباحثين عن الحقيقة والراغبين في الإطلاع على تفاصيل لم يعايشوها أو سمعوا عنها. هناك عدد من القادة والسياسيين العرب دونوا مذكراتهم، لكنها بقيت حبيسة الأدراج ولم يفرجوا عنها.
وتلجأ السلطة بما في ذلك سلطات الدول الديمقراطية الغربية، إلى اعتبارات “الأمن القومي” لمنع نشر شهادات تراها سلبية التأثير من وجهة نظرها، فمثلا حاول البيت الأبيض في يونيو الماضي، استخدام المصطلح ذاته لوقف نشر مذكرات جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق. غير أن ضغوط حرية الرأي والتعبير كانت أكثر ثقلا من ادعاءات حساسية الشهادة، ما أدى في نهاية الأمر إلى الانحياز للنشر على حساب الاعتبارات الأخرى.
واختلف الأمر كثيرا في ألمانيا، عندما أصر ديوان المستشارية قبل شهور على رفض السماح لغيرهارد شيندلر، الرئيس الأسبق لجهاز المخابرات الخارجية، تولى المسؤولية خلال الفترة من 2011 إلى 2016 بنشر مذكراته، لأنها تحتوي على “معلومات سرية ما زالت ممنوعة من النشر”.
فالقضية تختلف تماما في العالم العربي حيث لا يوجد تعريف محدد لاعتبارات الأمن القومي، ولا توجد قواعد واضحة يمكن الاحتكام لها في رفض نشر مذكرات مسؤول ما والسماح بمذكرات آخر.
وطالب البعض بمحاكمة رؤساء دول سابقين لقيامهم بالإدلاء بشهاداتهم عبر مذكراتهم الرسمية، كان من بينهم الرئيس الجزائري الأسبق علي كافي (1992-1994)، الذي نشر مذكراته عام 1999 وسرعان ما سحبت من الأسواق بعد احتجاج قادة عسكريين بحجة أنها تضمنت ما اعتبر “إساءة” لرموز الثورة الجزائرية.
كان علي كافي، وهو الرئيس الخامس للجزائر منذ الاستقلال، قد روى في مذكراته أن عبان رمضان، أحد رموز الثورة الجزائرية قتل بمدينة وجدة المغربية سنة 1957 على أيدي ثوار الجزائر أنفسهم بسبب اتصالاته وارتباطه مع فرنسا.
ومثلت تهمة نشر أسرار الدولة دون إذن مسبق حجة لدى الكثير من الحكومات لمعاقبة مسؤولين سابقين قرروا كتابة شهاداتهم عن أحداث سياسية عايشوها وملاحقتهم.
في مصر، تمت محاكمة الفريق سعدالدين الشاذلي، رئيس أركان الجيش المصري في حرب أكتوبر 1973 بسبب نشر مذكراته في الجزائر عام 1980، رغم أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات نشر وقتها جانبا من مذكراته عن الحرب في كتابه “البحث عن الذات”، ما بعث برسالة إلى الرأي العام مفادها بأن رئيس الدولة وحده المسموح له بالتصريح وتقديم الشهادات، لأنه الأقدر على تحديد ما يدخل ضمن الأسرار العسكرية من عدمه.
ونشر الفريق سامي عنان، رئيس الأركان المصري السابق جانبا من مذكراته الشخصية نهاية العام 2013 في بعض وسائل الإعلام المحلية، لكن سرعان ما تراجع وأوقف النشر. ثم أنكر صلته بتلك المذكرات بعد اعتراض المؤسسة العسكرية المصرية على ذلك في بيان رسمي.
أسرار الدولة
يرى الكاتب والمحلل السياسي المصري أسامة السعيد أن مصطلح الأمن القومي نفسه مطاط وغير محدد على وجه اليقين في معظم الدساتير العربية، فالتعريف الفضفاض يمنح الحكومات الفرصة للانتقاء ووضع حدود متفاوتة في التعامل مع شهادات الشهود.
ويؤكد السعيد في تصريح لـ”العرب”، أن المذكرات التي تتناول أسرارا عسكرية تستلزم إذنا خاصا يتم جلبه من خلال مسار رسمي واضح ومحدد، حيث تعرض المذكرات أو الكتابات المتصلة بمثل هذه الأمور على أمانات ولجان في وزارات الدفاع العربية للسماح بإجازتها.
وذكر أنه سبق وأجرى حوارا مع المشير الراحل عبدالغني الجمسي وزير الدفاع المصري الأسبق، وكان رئيسا للعمليات في حرب أكتوبر، وروى له أنه لم ينشر مذكراته إلا بعد عرضها على كافة الأجهزة الأمنية ما يعني أن هذا التصديق ضروري حتى للقادة العسكريين أنفسهم.
ويرى خبراء ومحللون أن الصمت أسلم وغياب الشهادة تماما أفضل من نشرها في حال كان ذلك يتسبب في إفشاء أمور يجب أن تستمر طي الكتمان وقد يعرض الدولة للخطر. ويشير هؤلاء إلى هذا الاختيار برفض المشير محمد حسين طنطاوي، الذي تقلد رئاسة المجلس العسكري في أعقاب تنحي الرئيس المصري الراحل حسني مبارك عن السلطة في فبراير 2011، نشر مذكراته حتى الآن.
ويقول الخبير الإستراتيجي، اللواء سمير فرج في تصريحات سابقة، إن هناك اتفاقا في المؤسسة العسكرية المصرية على عدم قيام أي من أعضاء المجلس العسكري بنشر أي معلومات عن فترة الـ20 شهرا خلال حكم المجلس.
ويوضح في هذا السياق أن جميع مقابلات المجلس العسكري واجتماعاته موثقة ومسجلة بالصوت والصورة وكذلك جميع الأحداث واللقاءات التي أجراها المجلس مع الأطياف والأحزاب السياسية في مصر.
وطلب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عام 2014 بجمع هذه الوثائق وإدخالها الخزنة السرية للقوات المسلحة لتكون تراثا كاملا لفترة عصيبة في تاريخ البلاد، ويرتهن الإفراج عنها بالظروف السياسية للدولة.
يقول كثيرون إن التاريخ ليس حكرا على أشخاص عاشوه بحكم وظائفهم أو مهامهم، ما يستلزم وضع قواعد وشروط للتعامل مع شهادات المسؤولين السابقين.
ويؤكد محمد الباز، رئيس مجلس إدارة وتحرير مؤسسة الدستور لـ”العرب”، أنه من المفترض على أي مسؤول ينوي كتابة مذكراته أن يدرك حقيقة ساطعة مؤداها أن ما لديه من وقائع كان في القلب منها صانعا أو شاهدا ليست ملكا خاصا به يتصرف فيها كما يشاء، لكنها ملك لأجيال حاضرة وقادمة من حقها أن تعرف بصدق وموضوعية.
ويشير إلى أن بعض المسؤولين يتحصنون وراء تصور يرى أن ما لديهم من مذكرات ملك للدولة وليس من حقهم أن يتصرفوا فيها، لأنها تمس من الأمن القومي، ما يفرض المزيد من الحرص في ما ينشر حيث تمثل أدوار الآخرين فيها الجزء الأكبر، وليس لفرد أن يتغول على حقوق أحد وأن يتحدث بلسانهم أو يروي عنهم ما يريدون إخفاءه.
ويلفت رئيس تحرير جريدة الدستور إلى أن السياسي المصري الراحل أسامة الباز كان من أبناء هذه المدرسة، فعندما سألوه لماذا لا تكتب مذكراتك، أجاب بأن ما لديه ليس ملكه وحده.
ويضيف في هذا السياق أنه “لا يمكن لوم أسامة الباز أو من ينتظم في مدرسته، لكن اللوم الحقيقي يقع على من يتطوعون بالكتابة ويجتهدون في إخفاء ما يجب إظهاره وتشويه ما يجب الحفاظ عليه، ويتعمدون إضافة هنا أو حذفا هناك، سعيا وراء جعل أدوار البطولة حكرا عليهم وحدهم”.