مدينة فاس.. الحاضرة الألفية المغربية تفخر بتثمين آثارها

فاس (المغرب) - الاهتمام الرسمي بتاريخ مدينة فاس، بوصفه محورا أساسيا من تاريخ المغرب، تجسد في زيارة قام بها العاهل المغربي الملك محمد السادس، يوم الأربعاء الماضي، لعدد من المواقع والمعالم التاريخية الأثرية التي خضعت لأشغال الترميم والتجديد، وذلك في إطار برنامج ترميم وإعادة تأهيل المآثر التاريخية للمدينة العتيقة بفاس، الذي رصد له مبلغا ماليا قدره 285.5 مليون درهم (حوالي 30 مليون دولار).
هذه الزيارة عكست العزم الراسخ للملك المغربي على صيانة الطابع المعماري للمدينة العتيقة بفاس، وتعزيز إشعاع هذه الحاضرة الألفية، التي تم تصنيفها منذ سنة 1981 من طرف منظمة “اليونسكو” تراثا عالميا للإنسانية. وهي بذلك أول مدينة مغربية تحظى بهذا التصنيف، وبشكل مبكر بالنظر إلى أن الاتفاقية المتعلقة بحماية التراث العالمي الثقافي والتراث الطبيعي التي اعتمدها المؤتمر العام لليونسكو تم توقيعها في 16 نوفمبر 1972، أي أن المدينة احتاجت إلى أقل من عشر سنوات لتنضم إلى قائمة المواقع التراثية العالمية.
يشار إلى أن مدينة فاس تأسست في العام 182 هجريّا (4 يناير من العام 808 ميلاديا) على يد إدريس الثاني الذي حولها إلى عاصمة للدولة الإدريسية بالمغرب. وتنقسم المدينة إلى ثلاثة أقسام؛ “فاس البالي” أي المدينة القديمة، وفاس الجديد وهو جزء تم بناؤه لاحقا أي في في القرن الثالث عشر ميلاديا، وأخيرا المدينة الجديدة وهي مدينة بنيت في حقبة الاستعمار الفرنسي للمغرب.
تضم مدينة فاس أقدم جامعة في العالم، ممثلة في جامع القرويين، الذي تم الشروع في بنائه عام 859 ميلاديا، ورغم أن التصنيف كأقدم جامعة في العالم غير متفق عليه، باعتبار القرويين تأسس بعد جامع الزيتونة عام 737 ميلاديا، (المؤرخ حسن حسني عبدالوهاب يعتبر جامعة الزيتونة أقدم جامعة في العالم ويقول إن اسم القرويين مشتق من المؤسسين الذين جاؤوا من القيروان) إلا أن ذلك لا ينفي عراقة الجامع وأهميته الدينية والمعرفية، ولا شك أن الأمر يعود إلى التداخل آنذاك بين دور الجامع ودور الجامعة، (القرويين تأسس بعد جامع الزيتونة وقبل جامع الأزهر في العام 970 ميلاديا).
ترميم آثار مدينة فاس من شأنه الارتقاء بجمالية المشهد الحضري، والتنمية السوسيو- اقتصادية لهذه المدينة
وتشير بعض القراءات التاريخية إلى أن جامع القرويين قد انتقل من مرحلة الجامع إلى مرحلة البداية الجامعية في العهد المرابطي، حيث قام العديد من العلماء باتخاذ المسجد مقرا لدروسهم.
وحسب النصوص المتوفرة فإن جامع القرويين دخل مرحلة الجامعة الحقيقية في العصر المريني، حيث بنيت العديد من المدارس حوله وعزز الجامع بالكراسي العلمية والخزانات.
بالعودة إلى الاهتمام الرسمي المغربي بآثار مدينة فاس، والنابع من عراقة المدينة وأهميتها، في القطر المغربي كما في العالم العربي الإسلامي، نشير إلى أن الملك محمد السادس قام بزيارة قنطرة الطرافين التي شيدها الأمير الزناتي دوناس في القرن الحادي عشر ميلاديّا، وسوق الصباغين الذي يعود بناؤه إلى الفترة الزناتية في القرن العاشر، والمدرسة المحمدية التي شيدت نهاية القرن الثالث عشر وقام بتجديدها السلطان محمد الخامس في القرن العشرين، والصفارين أول مدرسة في الفترة المرينية بالمغرب (675 هـ/ 1276 م)، والمصباحية المشيدة شمال جامع القرويين من طرف السلطان المريني أبي الحسن سنة 1347م.
كما قام الملك محمد السادس بزيارة “دار المؤقت” وهو برج تم تشييده في فترة حكم السلطان المريني أبي عنان بهدف مراقبة الفلك، والوكالة السابقة لبنك المغرب (بداية القرن العشرين)، وفندق القطانين (القرن التاسع عشر في فترة السلطان مولاي الحسن الأول)، وحمام بن عباد (القرن الرابع عشر)، ودار الأزرق التي تم تأسيسها خلال الفترة المرينية في القرن الخامس عشر، وقنطرة الخراشفيين (القرن الحادي عشر)، وبرجي سيدي بونافع وبوطويل المشيدين من طرف السعديين خلال القرن السادس عشر.
ترميم المآثر التاريخية الـ13، المشروع المحوري الرامي إلى حماية الذاكرة الجماعية، والذي تطلب إنجازه مبلغا ماليا تفوق قيمته 92 مليون درهم، يأتي في إطار تجسيد المقاربة التي ينتهجها الملك، والرامية إلى تثمين الرأسمال اللامادي، أحد أبرز معالم الثروة التي ينعم بها المغرب.
برنامج إعادة التأهيل يهم تجديد 27 موقعا تاريخيا، من بينها 26 تم الانتهاء من أشغال تجديدها وموقع واحد مبرمج للسنة الحالية
وتشكل أعمال الترميم والتجديد جزءا من برنامج ترميم وإعادة تأهيل المآثر التاريخية للمدينة العتيقة بفاس، الذي وقعت الاتفاقية-الإطار المتعلقة به في الرابع من مارس 2013، تحت رئاسة الملك محمد السادس، وذلك بين كل من وزارات الداخلية، والأوقاف والشؤون الإسلامية، والاقتصاد والمالية، والسكنى وسياسة المدينة، والثقافة، ووزارة الصناعة التقليدية، وولاية جهة فاس - بولمان، والجماعة الحضرية لفاس، وجماعة مشور فاس الجديد، ووكالة التنمية ورد الاعتبار لمدينة فاس.
يذكر كذلك أن برنامج إعادة التأهيل في مجمله يهم تجديد 27 موقعا تاريخيا، من بينها 26 تم الانتهاء من أشغال تجديدها وموقع واحد مبرمج برسم السنة الحالية.
ومكن هذا البرنامج من ترميم 13 موقعا زارها الملك الأربعاء الماضي، فضلا عن مدرستي الصهريج والسباعيين اللتين تم تشييدهما في القرن الرابع عشر من طرف السلطان أبي الحسن المريني، وبرج الكوكب (القرن الرابع عشر)، وأسوار باب الماكينة المشيدة في القرن الرابع عشر (الشرق) والقرن التاسع عشر (الغرب)، وأسوار جنان الدرادر (القرن الثاني عشر)، وفندق الصاغة (بداية من القرن الثامن عشر) وعشيش (القرن السادس عشر)، ومدابغ عين ازليتن وسيدي موسى (القرن التاسع)، ودار الدباغ شوارة (القرن السادس عشر)، ودار الضمانة ( القرن الرابع عشر)، ومكتبة القرويين المشيدة من طرف السلطان محمد الخامس، وضريح سيدي حرازم (القرن الثاني عشر).
وقد أنجزت أشغال تجديد هذه المآثر من طرف معلمين (حرفيين تقليديين)، عملوا على ترميمها وفق النمط الأصلي، مستعينين في ذلك بإتقانهم وقدرتهم الإبداعية والخبرة التي ورثوها عن أسلافهم.
ولا شك أن من شأن ترميم هذه المآثر المساهمة في تعزيز المدارات السياحية على مستوى المدينة العتيقة لفاس، والارتقاء بجمالية المشهد الحضري، والتنمية السوسيو- اقتصادية لهذه المدينة التاريخية المتحفية، والحفاظ على تراثها المادي الذي يعكس عظمة التاريخ المعماري العريق، وأصالة ومهارة منقطعة النظير في المجالات الثقافية والمعمارية والاجتماعية.