مخاوف الغرب من الدور الروسي تدفع به إلى عرقلة الحل السياسي في ليبيا

روسيا باتت طرفا محددا في الوضع الليبي ليس فقط لوجود مرتزقة فاغنر ودعمهم لقائد الجيش خليفة حفتر، ولكن أيضا من خلال ربط قنوات التواصل مع مختلفة الفرقاء بما في ذلك حكومة عبدالحميد الدبيبة. فليبيا حلقة للنفوذ الروسي من سوريا إلى أفريقيا.
عاد الملف الليبي للتداول بقوة من قبل العواصم الغربية وفي مقدمتها واشنطن، مع دعوة واضحة لاعتماد مبادرة المبعوث الأممي عبدالله باتيلي التي سبق وأعلن عنها في نوفمبر الماضي، والتشكيك في جدوى أي جهود لا تنطلق منها، بما في ذلك اللقاء الثلاثي الذي جمع الأحد الماضي بين رؤساء مجلس النواب والمجلس الرئاسي ومجلس الدولة الاستشاري.
وتشير أوساط ليبية إلى أن تحركات ومواقف أميركية – أوروبية تتواتر هذه الأيام تحت غطاء دعم المبادرة الأممية، وهي تهدف بالأساس إلى محاصرة الدور الروسي وقطع الطريق أمام أيّ خطوات للحل السياسي قد تستفيد منها موسكو وحلفاؤها في الداخل الليبي.
وتضيف الأوساط، أن الحديث عن إمكانية التوصل إلى حل للأزمة، لا يزال بعيدا، وأن الوضع في ليبيا بات جزءا من التجاذبات الإقليمية والدولية، ومن إفرازات الصراع بين واشنطن وحلفائها من جهة، وموسكو من جهة ثانية، وبالتالي فإن الحديث عن حل سياسي في البلد الثري الواقع في شمال أفريقيا لن يتحقق إلا في ظل تسوية دولية شاملة.
ولم يعد خافيا أن العواصم الغربية مستعدة لعرقلة مساعي الحل إن لم تكن بالمرور عبر قنواتها، وهو ما حصل في العام 2021 عندما تم ترحيل موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بشكل متعمد إلى أجل غير مسمى، وذلك بسبب ترشح طرفين قريبين من موسكو ولا يحظيان بقبول ورضا واشنطن ولندن وهما المشير خليفة حفتر والمهندس سيف الإسلام القذافي.
كما أن تلك الصورة تتكرر اليوم، من خلال تشكل ملامح مخطط جديد لعرقلة أيّ تقارب بين القوى الداخلية، وربط كل خطوة نحو الحل بالمبادرة الأممية حول الطاولة الخماسية التي تبين في الأخير أنها مقترح أميركي – أوروبي قبل أن تكون مقترحا أمميا.
وفي الأثناء، ترتفع وتيرة المخاوف الغربية من تمدد الدور الروسي في ليبيا وخاصة في شرق البلاد وجنوبها، وذلك في علاقة مع اتساع نفوذ موسكو في منطقة الساحل والصحراء، وخاصة في الدول التي شهدت انقلابات عسكرية سرعان ما تحولت إلى حركات تحرر من النفوذ الفرنسي بمختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.
وبيّن مركز “صوفان” الأميركي للأبحاث، أن قوى إقليمية ودولية تعمل مع الحكومات المتنافسة في ليبيا لتحقيق مصالحها الخاصة، وأن روسيا تستخدم علاقاتها مع حفتر لتوسيع نفوذها في أفريقيا، وأضاف أن موسكو تنشر نحو 800 مقاتل في ليبيا يديرون 3 قواعد جوية في سرت والجفرة وبراك الشاطئ، مبرزا أن وجود المقاتلين الروس في ليبيا عزز نفوذ حفتر العسكري الذي يمكن أن يستغله لمواجهة خصومه في طرابلس.
من جانبها، ترى مؤسسة «جيمس تاون» الأميركية أن انقسام نظام الحكم في ليبيا مهَّد الطريق أمام توسع النفوذ الروسي منذ العام 2018 على الأقل، مشيرة إلى توجه موسكو لتعزيز عمليات مجموعة فاغنر شبه العسكرية لتكون تحت الإشراف المباشر من هيئة أركان الجيش الروسي.
وأوضحت المؤسسة في تقرير لها أن حفتر يعمل على بناء اتصالات مع روسيا لتأمين تدريب للقوات الخاصة، مقابل تواجد روسي متزايد في شرق ليبيا، على الرغم من التحذيرات الأميركية، كما تطرقت إلى خطط إستراتيجية عسكرية تعدها هيئة أركان الجيش الروسي بهدف تأمين النفوذ على ساحل البحر المتوسط، مبرزة أن قواعد “الجفرة وسرت وبراك الشاطئ الجوية جرى دمجها بالفعل في طريق الإمداد الجوي الروسي من اللاذقية إلى بانغي ومنطقة الساحل”.
ورجح التقرير أن تكون ليبيا نقطة انطلاق مهمة للعمليات الروسية في السودان، وجمهورية أفريقيا الوسطى، والتحالف العسكري الجديد لدول الساحل، الذي يتكون من النيجر ومالي وبوركينا فاسو، لافتا إلى أن قوات مجموعة فاغنر دعمت قوات حفتر في محاولته السيطرة على العاصمة طرابلس، لكن غالبية المقاتلين الروس كانوا عديمي الخبرة في المعارك، ما خلق توترًا مع حفتر. وسمح اتفاق الهدنة، الموقع في مايو 2020، بعودة المرتزقة الروس والسوريين إلى مالي وأوكرانيا، وفق التقرير.
من جانبها، قالت إذاعة دويتشه فيله الألمانية إن ليبيا باتت عرضة للنفوذ الأجنبي مع استمرار القتال والتناحر السياسي وغياب الديمقراطية والجمود الذي يعتري البلاد منذ انتفاضة عام 2011، وهو الأمر الذي فتح المجال أمام مجموعة فاغنر الروسية لتجد موطئ قدم هناك منذ عام 2018.
واعتمدت الإذاعة في تحليلها على تقرير صدر مؤخرا عن المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث مقره لندن، جاء فيه أن روسيا تسعى بشكل متزايد إلى تحقيق هدفها الطموح في إنشاء ما يسمّى “الوفاق الاستعماري الروسي” الذي ينبغي أن تنضوي تحت لوائه الدول التي تسعى إلى مساعدة موسكو في الشرق الأوسط وأفريقيا.
وتعتقد الإذاعة أن روسيا تضع نصب عينيها ليبيا في ضوء الأزمات السياسية والعسكرية التي تعصف بالبلاد منذ انتفاضة عام 2011 التي أطاحت بنظام معمر القذافي من الحكم، وتنطلق في ذلك من أن ليبيا تتمتع بموقع إستراتيجي هام على البحر المتوسط فضلا عن امتلاكها احتياطيات نفطية من بين الأكبر في القارة السمراء واحتياطيات وفيرة من الذهب. وعسكريا، ينشط المئات من مرتزقة فاغنر في ليبيا منذ عام 2018.
ويتحدث مراقبون إقليميون عن تميز روسيا بقدرتها على ربط شبكات علاقات مع جميع الأطراف الليبية، وخاصة مع سلطات المنطقة الشرقية بما فيها القيادة العامة للجميع، وأنصار النظام السابق، والزعامات القبلية، وصولا إلى سلطات طرابلس، حيث قال الوزير المكلف بتسيير أعمال وزارة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية، الطاهر الباعور، إن حكومة الوحدة ليس لديها مانع أو تحفظ بشأن العمل مع روسيا.
وأوضح في مقابلة مع وكالة سبوتنيك الروسية الأسبوع الماضية أن “أيّ عمل يجب أن يمرّ بالطرق الدبلوماسية والمسار الرسمي، أي الحكومة ووزارة الخارجية الموجودة في طرابلس، والحكومة ليس لديها أيّ موانع أو تحفظ للعمل مع روسيا”.
ويشير المراقبون إلى أن الدور الروسي في ليبيا قديم والعلاقات بين البلدين عريقة، والشارع الليبي ليست له مؤاخذات على الروس كتلك التي له على الأميركيين وحلفائهم الغربيين، وخاصة فيما يتعلق بمواقفهم من القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ويستدل المهتمون بالشأن الليبي على ذلك بأن الليبيين لم يبدوا أيّ تذمر من الروس، وهناك من يرى في وجودهم ضمانات لتحقيق التوازن مع الحضور الغربي المباشر في أحداث العام 2011، لاسيما في ظل الحضور اللافت للقوات التركية التي لا يمكن فصلها عن عقيدة الناتو الذي تنتمي إليه.
موسكو تنشر نحو 800 مقاتل في ليبيا يديرون 3 قواعد جوية في سرت والجفرة وبراك الشاطئ ما يعزز موقعها في المتوسط
وقد سعى سفير روسيا لدى ليبيا حيدر أغانين إلى طمأنة الليبيين عن دور بلاده. وقال في مقابلة مع قناة «آرتي» الحكومية، إن السياسة الروسية في ليبيا لا ترتكز على تفضيل أيّ طرف على آخر، وأشار إلى أن انقسام مراكز السلطة في ليبيا يدعو موسكو للتفاوض مع جميع الأطراف، مؤكدا أن روسيا تلعب دورا رئيسيا لحل
الأزمة الليبية، حيث استضافت طرفي الصراع في موسكو تحت عنوان “الحوار الليبي – الليبي”، مؤكدا أن الموقف الروسي يركز على توحيد البلاد والمؤسسات، مع التأكيد على ضرورة إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية لتشكيل سلطة شرعية.
كما أوضح السفير الروسي أن الرسائل التي يبلّغها للمسؤولين الليبيين خلال لقاءاته تتمثل في رسائل تحفيز وتشجيع، مؤكدا رفضه التدخل بالإملاءات وإصدار التعليمات، ووصف مواقف الأطراف الليبية بأنها “متناقضة”، مما يعيق التوصل إلى توافق حقيقي.
وشدد أغانين على أن المجتمع الدولي يدرك ضرورة إنهاء حالة الانقسام في ليبيا والتحول نحو الاستقرار، ولفت إلى أهمية دعم الاستقرار الاقتصادي والتعاون في مجالات النفط وإعادة إعمار المناطق المتضررة، لافتا إلى أن “الغرب هو من أوصل ليبيا إلى هذه الأزمة، فمثلا ليبيا كانت تقوم بدور مهم في مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، لكن حلف الناتو بتدخلاته غير الصحيحة دمّر جهاز حرس الحدود الذي كان يحمي سواحلهم”، وفق تعبيره،
وتستمد روسيا مواقفها من أخطاء الغرب التي أدت ليس فقط إلى إيجاد الأزمات ولكن والأخطر من ذلك هو تأبيدها بالعجز عن حلها أو بتعمد عرقلة كل محاولات حلها من الداخل، كما يحصل حاليا مع الأزمة الليبية.