مخاطر تعايش الحكومة المصرية مع السلبيات بدلا من تغييرها

لجوء وزير التربية والتعليم في مصر إلى تقنين الدروس الخصوصية تبدو أقرب إلى الحل السهل الذي يجنبه وجع الرأس ويمكّن الدولة من الاستفادة ممّا ينفق على هذا القطاع، لكن الخطوة تخفي مسارا من اللجوء إلى الحلول السهلة بدل التفكير في بدائل تكون نتائجها ذات نفع على المدى البعيد.
لم يكن حديث وزير التربية والتعليم المصري رضا حجازي حول تقنين عمل مراكز الدروس الخصوصية للطلاب يعبر عن رؤية وزير جديد أراد أن يتصدر المشهد أو يعلن عن نفسه، بل ما تحدث عنه يعكس رؤية حكومة تستسهل حل المشكلات وتلجأ إلى المسكنات أملا في أن تتحاشي غضب المواطنين وسط أزمة اقتصادية عاصفة، ومحاولة تحويل كل خسارة إلى مكسب.
أصبحت النقطة الخاصة بالمكسب والخسارة مركزية في إدارة الكثير من الملفات التي تتعامل معها الحكومة، وهي كاشفة لطريقة علاجها للأزمات، فالمكسب السريع الخفيف المريح أهم من البعيد العميق الصعب الذي يمكنه حل أي مشكلة من جذورها.
ويبدو أن ثمة عددا كبيرا من الوزراء في عجلة من أمرهم وغير واثقين بالبقاء على مقاعدهم واستمرارهم في مناصبهم كي ينتظروا جني ثمار حقيقية على المدى البعيد.
ويفسر التفكير أسباب التوسع الكبير في محطات الوقود والمطاعم والمقاهي في الكثير من الأراضي التابعة للدولة والتركيز على تحقيق عوائد مادية عاجلة منها، وعدم السعي نحو التوسع بالوتيرة نفسها في زيادة عدد المصانع والاستثمار في السلع التصديرية التي يمكن أن تزيد حصيلة الحكومة من العملات الصعبة.
ما ذهب إليه وزير التعليم بشأن تقنين أوضاع مراكز الدروس الخصوصية هو نمط تجاري بحت، فعندما عجز عن حل المشكلة أراد الاستفادة من حوالي ملياري دولار تنفق سنويا عليها، وذلك من خلال وضع جهة رقابية على المراكز والمعلمين تتولى الإشراف على هذه المهمة، وكان الوزير السابق طارق شوقي يحاربها وبذل جهدا كبيرا لمقاومتها، ووقتها كان الوزير الحالي نائبا له ولم يعارضه أو يطرح رؤيته الجديدة.
وضع رضا حجازي الجميع في حيرة، فالهدف المعلن لشرعنة عمل المراكز تخفيض المقابل المادي الذي يتحصل عليه أصحابها لصالح أولياء الأمور، وتشجيع الطلاب على التحصيل الدراسي، ومنح رخصة للمعلمين لمزاولة عملهم بحرية، وزيادة الدخل المادي للوزارة بما يفيدها في تطوير التعليم، وكلها شعارات تتناقض مع أسس العملية التعليمية نفسها التي تقوم على الضبط والربط وحسن التحصيل العلمي.
فكيف لمن يتلقى دروسه في أحد مراكز الدروس الخصوصية أن يتسنى له استيعاب دروسه وسط نحو 500 من التلاميذ قد يحضرون درسا خاصا لمدرس أو عبقري في الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات، بينما يشكو الجميع من كثافة الفصول في المدارس الحكومية عندما تكتظ بنحو ستين أو سبعين تلميذا؟
ابتعد الوزير عن جوهر الأزمة التي يعاني منها التعليم طواعية، وكأنه لا يملك الصبر ليتبنى خطة تضع قاعدة جيدة للتطوير، وفضّل أن يتحرك في حلقات مفرغة دار فيها الكثير من وزراء التعليم من قبل في مصر، حيث سار غالبيتهم من تخبط إلى آخر، ولذلك مضى نحو أربعة عقود والتعليم في المدارس الحكومية يعود إلى الخلف.
كل خطوة يتراجع فيها التعليم العام يكسب منها التعليم الخاص والدولي مساحة كبيرة في المدارس والجامعات، حتى غزت أنواع مختلفة من المدارس البلاد، منها الأميركية والبريطانية والكندية والفرنسية والألمانية واليابانية والصينية والروسية، وكلها تعمل تحت إشراف وزارتي التعليم والتعليم العالي، وتحصل على التراخيص اللازمة من الحكومة المصرية مقابل رسوم وضرائب معينة.
تحول التعليم في مصر إلى تجارة رائحة، أو بمعنى أدق مافيا، لها أذرع عديدة في أجهزة الدولة، تستطيع فرملة كل وزير جاد يحاول اختراقها وتفكيك أدواتها في أي وزارة أو جهة رسمية، وبدلا من أن تتجه الحكومة إلى التعامل مع هؤلاء وما يمثلونه من تهديد حقيقي على مستقبل الدولة أسرفت في الإغداق بالمزايا والتسهيلات على مدارسهم وجامعاتهم حتى تغوّلت وقد لا تتمكن الحكومة نفسها من تقويضها لاحقا.
قد لا يدخل حديث وزير التعليم أمام البرلمان بشأن تقنين أوضاع مراكز الدروس خارج المدارس حيز التنفيذ عقب الضجة التي أثارها في المجتمع، والتي استقبلت بحذر في البداية وتأييد من جانب بعض النواب، لكن عندما بدأ الهجوم يتزايد ولا تتم فرملته كما يجري في بعض القضايا فهم الناس أن هذه الخطوة لن تجد طريقها إلى التنفيذ.
فالحكومة التي استمد منها وزير التعليم جرأته في حديثه يمكن أن توقف خطوته، ما يعني أن هناك صراعا بين جناحين داخلها، أحدهما يريد المكسب السريع وعدم إثارة المشكلات والتوسع في منهج المسكنات، والاتجاه الآخر يرفض هذا الطريق ويرى أن مهمة الحكومة أكبر من القيام بدور “السمسار” في تعاملها مع بعض المشكلات.
◙ النقطة الخاصة بالمكسب والخسارة أصبحت مركزية في إدارة الكثير من الملفات التي تتعامل معها الحكومة
ويكشف الصراع الخفي نوعية التفكير الذي تدار به الكثير من الأزمات، وأدى إلى صعوبة بالغة في حل الكثير منها، فعلى مدى سنوات تحققت مشروعات تنموية كبرى على الأرض، ولا يزال هناك من يخشون خطورة التعامل مع القضايا المصيرية من نوعية التعليم والصحة والثقافة والإعلام، وهي قضايا لا يجب التعامل معها بعقلية التاجر السمسار الذي كل ما يهمه إرضاء جميع الأطراف كي يتحصل على عمولته.
تحتاج هذه القضايا إلى رؤى بعيدة على المستوى نفسه الذي تدار به الطرق والجسور والبنى التحتية، وربما أهم منها، فلن تصبح مردودات هذه المشروعات ذات قيمة في غياب التعليم الجيد والصحة العقلية، والتراخي في تطوير الثقافة، ومنح الإعلام حرية كبيرة، حيث تشكل هذه المجالات العامود الفقري العقل والوجدان العام للمواطن.
تأتي مخاطر تعايش الحكومة المصرية أو بعض أجهزتها مع السلبيات بدلا من تغييرها من تأثيراتها البعيدة، فاليوم يتم تقنين الدروس الخصوصية وأمس جرى تقنين مخالفات البناء والاعتداء على الأراضي الزراعية وتجريفها وغدا يمكن القبول بتجارة الآثار والمخدرات والسلع المهربة، وهكذا يمكن أن تجر السلسلة كل المحرمات التي منعها القانون لأن الحكومة لا تريد أن تبذل جهدا في وضع وسائل محكمة للعلاج.
نكأ ملف الدروس الخصوصية جراحا عديدة تسببت فيها الحكومة بإجراءاتها الخاطئة وهي لا تعلم مدى ما تراكمه تصرفاتها من نتائج قاتمة على الصورة العامة للنظام الحاكم، فمهما قيل حول فردية قرار وزير التعليم هناك شريحة لن تصدق، إذ يصعب أن يصل خياله إلى هذا النوع من التفكير دون حصوله على إذن أو تصريح أو حتى إشارة بتمرير مقترحه من جهة أعلى منه في رئاسة مجلس الوزراء أو خارجها.
تعد هذه واحدة من التكاليف التي يمكن أن يدفع ضريبتها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي نفسه، لأن الناس لا يعرفون سواه في السراء والضراء، ويعتقدون أن الوزراء من الضروري أن تكون سرعاتهم في التعامل مع الأزمات وطرق حلها تسير على الوتيرة ذاتها التي يعمل بها الرئيس أو قريبة منها.