محمود أباظة: الأرض السياسية في مصر بحاجة إلى استصلاح

السياسي المصري يؤكد أن ثورة يناير نتاج انقلاب مجتمعي تعيشه مصر منذ السبعينات، وأن تطور المجتمع من الزراعة إلى الصناعة فالخدمات لم يواكبه تطور في البناء السياسي.
الجمعة 2019/01/25
محمود أباظة: انتفاضة يناير تمثل إرهاصا لأكبر تغير شهده المجتمع المصري في تاريخه

يعتبر السياسي المصري محمود أباظة أن ما عاشه المصريون يوم 25 يناير هو نتيجة لمخاض عاشوه على امتداد سنوات تعود إلى حقبة السبعينات وما طرأ على المجتمع من تغييرات وتطورات كانت رقعة تأثيراته تتسع على مدار السنين إلا أنه لم يصاحبها تغيير على مستوى المواكبة السياسية، حيث ظل النظام الحاكم، رغم تغير الرؤساء، يتعامل بنفس أسلوب حكم الخمسينات. ويستبعد أباظة، في حوار مع “العرب”، أن يقبل المصريون على تحركات مماثلة في السنوات المقبلة، وذلك نتيجة الفوضى التي أعقبت سقوط نظام حسني مبارك وصعود الإخوان إلى السلطة، فسقوطهم بعد سنة واحدة، ومن جهة أخرى لأن المصريين مقتنعون الآن بضرورة التعاطي مع المرحلة الانتقالية حتى لو كانت للنظام سلبيات، وإذا حدث وعاشت البلاد ثورة شعبية مماثلة لما حدث في 25 يناير فإن ذلك لن يكون قبل عقود، وستكون تلك الثورة نتاج مخاض ما يعيشه المصريون اليوم وعلى مدى سنوات مقبلة.

القاهرة - تمر اليوم، الجمعة، في مصر ثمانية أعوام على أكبر انتفاضة شعبية شهدها العالم العربي، دون أن تشهد الخارطة العامة تحسنا كبيرا. وبعيدا عن الدخول في جدلية توصيف ما جرى في 25 يناير 2011، أكد أغلب المصريين أن تكرار التجربة أمر مستحيل، على الأقل على المدى المتوسط.

ولا ينحصر هذا الموقف عند العامة من الشعب المصري، الذين تأثروا اقتصاديا وأمنيا، بل يقر به أيضا خبراء سياسيون، من بينهم محمود أباظة البرلماني السابق، ورئيس حزب الوفد الأسبق.

ويستبعد أباظة، في حوار مع “العرب”، تكرار انتفاضة 25 يناير في مصر، لأنها جرت وفق أسباب اجتماعية تعود إلى منتصف السبعينات، مشيرا إلى أن الوضع الآن يحتاج إلى الدخول في مرحلة استصلاح للأرض السياسية، تمهيدا للبناء الجديد الذي يجب أن يستوعب أوجه الخلل في الأنظمة السابقة. وأكد أن الناس لم يكونوا قبل انتفاضة يناير (يرفض تسميتها ثورة) يدركون ثمن إسقاط النظام، والآن لم يعرفوا الثمن فقط، وإنما عايشوه لحظة بلحظة وذاقوا مرارته.

الجمهور بشكل عام يمكن أن يدفع ثمنا لا يعرفه على وجه التحديد، ليُبدل من حال يتصوره سيئا إلى حال ينتظره حسنا، لكنه لا يمكن أن يدفع ثمنا يعلم كم هو باهظ لينتقل إلى حال لا يعلمه.

النخبة لم تكن أبدا سببا من أسباب قيام الثورة أو الانتفاضة، حتى يؤدي خفوت بريقها إلى استحالة الثورة، والدعوة إلى ثورة 25 يناير لم تصدر عن أي من أفراد النخبة أو رموزها أو حتى الأحزاب السياسية القائمة، وإن حاول البعض تصوير ذلك

وقال محمود اباظة إن دعاة الحرية في 25 يناير عانوا مما حدث بعدها حيث تفككت الدولة في ساعات، مشيرا إلى أنه حدث ربط خاطئ بين الحرية والفوضى بعد 25 يناير.

يُعد أباظة أحد الساسة المخضرمين في مصر، وعمل بالسياسة منذ السبعينات. وشارك في أنشطة الوفد بعد عودة الحزب إلى الحياة السياسية بحكم قضائي عام 1984 برئاسة فؤاد سراج الدين، وانتخب عضوا في البرلمان، قبل أن يترأس الحزب خلال الفترة من 2006 إلى 2010، أي قبل أشهر من اندلاع ثورة 25 يناير.

ينتمي الرجل إلى عائلة أرستقراطية شارك الكثير من أبنائها في العمل السياسي، في أحزاب وتيارات متنوعة على مدى عدة عقود، من أبرز رموزها السياسيين وجيه أباظة، عضو مجلس قيادة ثورة يوليو 1952 وأحد الضباط الأحرار، ثم ماهر أباظة وزير الكهرباء في عهد حسني مبارك، وأمين أباظة وزير الزراعة وشقيق محمود أباظة نفسه.

أكد مسؤول عربي تحدثت معه “العرب” مؤخرا أن الحكومات المختلفة استوعبت الدرس، ولن تسمح بتهيئة الظروف السياسية والإعلامية لأي موجة ثورية جديدة، وتعمل الأجهزة الأمنية الآن على قطع الطريق على كل محاولة من المنبع يمكن أن تؤدي إلى هذا المسار.

ويعلق أباظة على ذلك موضحا أن الثورات في التاريخ تعقبها غالبا فترة فوضى تظهر آثارها الاقتصادية في ما بعد، ما يعني أن الدخول في انتفاضة جديدة يمثل ترديا أكبر على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما لا يتحمله المصريون، والشعوب عندما تثور لا تنظر إلى ما هو بعد الثورة، وربما تظن أن التخلص من السلطة هدف في حد ذاته، لكنها تنتبه بعد قليل لخسائرها.

ورأى أنه حتى في فرنسا، تعاطفت الناس في البداية مع أصحاب السترات الصفراء ومطالبهم، لكنهم بعد ذلك رأوا أن الحفاظ على الاستقرار والنظام أفضل وأهم لتحقيق مصالح البلد.

جذور من الماضي

سياسات الأنظمة المتعابقة في مصر لم تكن انعكاسا للمتغيرات التي طرأت على حياة المصريين
سياسات الأنظمة المتعابقة في مصر لم تكن انعكاسا للمتغيرات التي طرأت على حياة المصريين

أكد أباظة أنه من الضروري فهم ما جرى في 25 يناير حتى يمكن التيقن من كونه قابلا للتكرار أم لا، “لقد كان المشهد العام لمصر في السنوات العشر الأخيرة من عهد مبارك ينبئ بحدوث صدمة كبيرة في البناء السياسي نتيجة اتساع الخلل بينه والمجتمع”.

وقال إن انتفاضة يناير تمثل إرهاصا لأكبر تغير شهده المجتمع المصري في تاريخه، وهو ما بدأ منتصف السبعينات من القرن العشرين، وهذا التغير يمكن تلخيصه في تحول مصر من بلد مستقبل للهجرات والأجناس من مختلف البلدان والثقافات، إلى بلد مصدر للعمالة، وهو ما حدث نتيجة التحول من الزراعة كحرفة أولى في المجتمع إلى حرف صناعية، تجارية، خدمية، وإلى البطالة في ما بعد.

وشرح محمود أباظة تصوره قائلا إن مصر في جميع عصورها اتسمت باستقرار شعبها نتيجة غلبة الزراعة على أعمال الناس، لذا كانت جاذبة للغرباء الباحثين عن الرزق وغير طاردة لأهلها، ولم يكن هناك دافع لدى الناس لتغيير الحاكم، مادام الرزق مستقرا بفضل نهر النيل الذي لا يمكن لحاكم أن يوقف جريانه.

وتابع مشيرا إلى أن تجنيد الشباب المصري للحرب من سنة 1967 وحتى 1975 بعد فك الاشتباك تماما بين الجيشين المصري والإسرائيلي، أدى إلى قطع العمالة الأهم عن الأرض الزراعية في الريف، كما أدى ارتفاع أسعار البترول بعد حرب أكتوبر إلى تحول المصريين عن الزراعة إلى قطاعات أخرى مثل الصناعة والتجارة والخدمات وسافر الكثير من الشباب إلى دول الخليج للعمل في منظومات التنمية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط.

كان المشهد العام لمصر في السنوات العشر الأخيرة من عهد مبارك ينبئ بحدوث صدمة كبيرة في البناء السياسي نتيجة اتساع الخلل بينه والمجتمع والتغيير القادم علا يحتاج ثورات أو انتفاضات، إنما ستفرضه ضروريات الاستقرار

كانت النتيجة أن العمالة الزراعية التي كانت في نهاية الستينات تمثل 80 بالمئة من إجمالي العمالة المصرية، صارت 17 بالمئة في الوقت الحالي، وصاحب ذلك ارتفاع كبير في أعداد الجامعات بعد أن كانت هناك ثلاث جامعات فقط هي القاهرة وعين شمس والإسكندرية، وارتفع عدد الجامعات إلى 50 جامعة، ما مثل أكبر تغيير في بنية المجتمع.

وأوضح محمود أباظة أن التغيير المجتمعي الهائل في منتصف السبعينات لم يوازه تغير أو تطور في البناء السياسي القائم منذ 1952، لذا بدت هناك قطيعة شديدة الوضوح بين الدولة والأمة، وفي أول اختلال كبير للتوازن سقطت الدولة في يناير 2011.

يقول البعض إنه من الأسباب الأخرى الهامة التي تمنع تكرار انتفاضة- ثورة يناير هو ما يعرف باحتراق النخبة أو خفوت بريقها. كانت النخبة قبل يناير 2011 تحظى بمصداقية وتقدير من فئات مختلفة من الجمهور، حتى أن الناس انتفضوا يوما جراء الاعتداء على الكاتب السياسي عبدالحليم قنديل بسبب مقالاته المنتقدة، رغم أنه كان يكتبها في جريدة محدودة الانتشار.

كان الجمهور ينظر بعين الثقة والتقدير للكثير من الساسة على يسار السلطة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، مثل الناشط العمالي كمال أبوعيطة، أو المعارض السياسي حسام عيسى، لكن سقوط النظام دفع المجلس العسكري إلى الاستعانة بالكثير من عناصر النخبة في مناصب سياسية وتنفيذية، ما أدى إلى تهاوي شعبيتهم نتيجة انتهاجهم أداء تقليديا في ظل ظروف صعبة شهدتها مصر خلال الأعوام التالية لسقوط نظام مبارك.

يقول المتابعون إن النخبة سقطت حين وقفت عاجزة أمام اختطاف جماعة الإخوان المسلمين للحكم، رغم أنها لم تشارك في يناير، ولم تستطع مجاراة الجماعة في الشارع، وتحولت من نفاق مبارك إلى محاولة استرضاء الجماعة ومرشدها، وفقدت مصداقيتها سريعا.

تحفّظ محمود أباظة على هذا الرأي، مؤكدا أن النخبة لم تكن أبدا سببا من أسباب قيام الثورة أو الانتفاضة، حتى يؤدي خفوت بريقها إلى استحالة الثورة، والدعوة إلى ثورة 25 يناير لم تصدر عن أي من أفراد النخبة أو رموزها أو حتى الأحزاب السياسية القائمة، وإن حاول البعض تصوير ذلك.

أظلم الفترات في تاريخ مصر التي تلت ثورات وحالات من الفوضى
أظلم الفترات في تاريخ مصر التي تلت ثورات وحالات من الفوضى

النفور من الثورة

أشار أباظة إلى أن حدوث حالة من الفوضى بعد الثورة واختطاف الفاشية الدينية لها في ما بعد، ساهما في تنفير الناس منها إلى حد كبير، قائلا “إن العامة لا تقبل فكرة سقوط الدولة أو العيش بلا نظام، لأن أعمالها وأقواتها تتعلق بهذا النظام”.

وذكر أنه لمس ذلك عندما استمرت تظاهرات الشارع المصري لعدة شهور تالية لـ25 يناير، ولمس غضبا واسعا لدى فئات عديدة من العامة تجاه المتظاهرين والمعتصمين من أجل مطالب سياسية.

وحكى لـ”العرب” أنه في ظل تظاهرات ما بعد الثورة قال له سائق تاكسي إن دخله تراجع بسبب المظاهرات والاعتصامات، ولم يعد قادرا على سداد أقساط سيارته، وسأله ساخرا إن كان الثائرون سيسددون له مديونياته؟

في رأي أباظة أن هناك إشكالية سياسية في التاريخ، وهي الموازنة بين الحرية والنظام، ففي فترات بعينها تأكل الحرية النظام وتحدث الفوضى، وأحيانا فإن الشعب يطالب بالنظام حتى ولو كان على حساب الحرية، ويحدث بعدها التوازن فالناس لا يستطيعون الاستغناء عن الحرية ولا النظام، ويجب أن يتحقق التوازن بينهما.

ولفت إلى أن أظلم الفترات في تاريخ مصر التي تلت ثورات وحالات من الفوضى مثل تلك الفترة الممتدة منذ مئتي سنة دون تعريف من علماء التاريخ بين الدولة الوسطى والدولة الحديثة في تاريخ الفراعنة.

الأنظمة السياسية عليها استيعاب دروس ثورات وانتفاضات الشعوب لتحسين أحوالها
الأنظمة السياسية عليها استيعاب دروس ثورات وانتفاضات الشعوب لتحسين أحوالها

وقدم محمود أباظة أمثلة أخرى على ذلك بحقبة خضوع مصر للحكم العثماني في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وحتى نهاية القرن الثامن عشر عندما غزا نابليون بونابرت البلاد، وفي تلك الفترة كانت الفوضى حاكمة، حتى وصل الحال بأمراء المماليك إلى تقسيم مدن مصر إلى قطاعات شبه منفصلة عن بعضها البعض، والفترات المظلمة تبقى دوما بلا معالم واضحة، حتى أن المؤرخين يحجمون عن تصنيفها أو تعريفها في كتب التاريخ.

من هنا يصبح أمل الناس منصبا بشكل رئيسي على عودة الاستقرار بأي ثمن، وتخفت المطالب السياسية تماما لهدف واحد هو القضاء على الفوضى. وأشار إلى أنه من الطبيعي أن يأتي عقب الفوضى نظام صارم، فذلك منطقي للحد من حالة الفوضى وخسائرها، ذلك النظام يحظى في الغالب بشعبية وقبول واسع لفترة طويلة، لأن الناس يطلبون الاستقرار حتى لو كان ذلك على حساب الحريات.

ورأى أن ذلك ربما يستغرق فترة زمنية ما، لكن تعود المعادلة السياسية مرة أخرى ويمكن استيعاب التغيرات المصاحبة، موضحا أن التغيير القادم على الساحة السياسية لا يحتاج ثورات أو انتفاضات، وإنما ستفرضه ضروريات الاستقرار المنشود.

وأكد رئيس حزب الوفد الأسبق أن المجتمع المصري في الوقت الراهن في حالة استصلاح للأرض السياسية، تمهيدا للبناء الجديد الذي يجب أن يستوعب أوجه الخلل في النظامين السابقين، سواء نظام مبارك أو نظام الإخوان، بعد أن سقطا تماما في الشارع المصري، كما أن الأنظمة السياسية عموما عليها استيعاب دروس ثورات وانتفاضات الشعوب لتحسين أحوالها.

12