محمد أبوالغيط إعلامي مصري افتقده الأصدقاء واحتار فيه الخصوم

القاهرة - لا يجد المرء تفسيرا للحب والتعاطف والحزن على الصحافي المصري الشاب محمد أبوالغيط، الذي رحل قبل أيام، سوى أن هناك الكثيرين لا زالوا يحترمون القيمة ويعلون المهنية ويقدرون الموهبة ويؤمون بأن البقاء في هذه الدنيا للأصلح.
فجرت كلمات الرثاء بعد رحيله حالة نادرة من الإجماع على نبوغه وإنسانيته وصفاء أفكاره، وعبّرت عن مدى الخسارة الفادحة التي منيت بها الجماعة الصحافية برحيل أحد أنبل من انتسبوا إليها في السنوات الأخيرة.
أصدرت دار الشروق للنشر في القاهرة عقب وفاته كتابه “أنا قادم أيها الضوء”، بعد أن دفع لها بهذا الكتاب قبل وقت قصير، وقررت تخصيص عائد الكتاب المادي لأسرته الصغيرة، حيث ترك زوجة شابة اسمها سارة، وطفلا لا يتعدى عمره بضع سنوات اسمه يحيى.
يستطيع من يطالع الكتاب أن يعرف شخصية أبوالغيط والخصال التي لعبت دورا في أن يراه الكثيرون عنوانا لجيل حاول أن يجد لنفسه مكانا تحت شمس الحرية، فقد ترك الطب واحترف الصحافة والإعلام بعد تخرجه مباشرة عندما نادته “النداهة” كما يقول المصريون، وهي صفة تدل على شغفه بعالم الكتابة والتطلع إلى الحرية، والتضحية بما هو أسهل إلى ما هو أصعب، وكأنه وجد نفسه في العالم الثاني، عالم يحفل بأمواج وعواصف وعراقيل، لكنها بدت خيارا لا مفر منه.
تغيير مسار
أسهمت الأجواء السياسية بدور معتبر في تغيير مسار شاب طامح مليء بالحيوية، إذ كان الحماس بمصر في أوجه مع تفجر ثورة يناير 2011، ووقتها دغدغ الشعار الذي رفع في ميادين الثورة حول الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية أحلام الملايين من الشباب لرؤيته واقعا على الأرض، ما جذبه إلى العمل في بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة).
احتار فيه الأصدقاء، وعلى الرغم من الاحتفاء بتكريمه بعد وفاته واستدعاء كتاباته ومآثره الصحافية وتحقيقاته الاستقصائية، إلا أن الكثير منهم شعروا بتقصيرهم حياله، لأنه كان من الواجب أن يرى ما كتب عنه لاحقا قبل وفاته، والتكريم الذي حظي به كان من المفترض أن يتم في حياته ليشاهد مدى الوفاء والإخلاص، خاصة أن بطولته في مكافحة سرطان المعدة الذي داهمه تستحق أن تحكى لأجيال قادمة، حيث تحول المرض إلى قصة ملهمة في عدم الرضوخ والاستسلام.
سرد الشاب المصري الذي رحل قبل أيام في أحد مستشفيات لندن كل كبيرة وصغيرة على صفحاته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وضمت الكثير من العبر والدروس، وهي التي نشرت بين دفتي كتابه “أنا قادم أيها الضوء”، وطغت على الكتاب علامات إنسانية وفلسفية وعلمية متعددة، لأنه غاص في العديد من تفاصيل الحياة القصيرة التي عاشها، وما تنطوي عليه من معان ومضامين، تلخص معاناته مع المرض وتحوي الكثير من المواقف التي تستحق الوقوف عندها بالتأمل والتفكير.
قد يكون رحيل أبوالغيط وهو في منتصف الثلاثينات من العمر فاجعة للكثيرين، لكنه حمل رسالة للعاملين في مجال الإعلام والمغرمين بحرفة الكتابة والصحافة، لأن المخزون الكبير الذي تركه يؤكد أن المهنية لها شأن عظيم، فغالبية من تصدوا للكتابة عنه كان دافعهم الرئيسي الكشف عن مكونات القيمة التي تركها في نفوسهم، فعدد كبير منهم عرض قصصا، جميعها تشير إلى أنه كان يعرف ماذا يقول، ولأي سبب.
خصومه لم يجدوا بدّا من التزام الصمت، على الرغم من أن أبوالغيط نشأ في أسرة إخوانية، وتزوج من فتاة والدها قيادي إخواني محبوس في السجون المصرية
اختلفت أنواع الكتابة وتباين الأشخاص الذين تعرضوا لسيرته، لكن كلهم اتفقوا على مهنيته وإنسانيته وطاقته الإيجابية التي كان يبثها على من حوله بتلقائية، وحرصه البالغ على الوصول إلى عمق الأشياء وجوهرها، وعدم التسليم للتفاهة والخفة والسطحية، وكان يرى أن المستقبل للكتابة للجادة، وأنها الأطول عمرا، لأنها تبقى بعد وفاة الإنسان المهموم والمحمل بقضايا نبيلة.
لم يجد خصومه، أو من يمكن القول إنهم خصوم، بدا من التزام الصمت بعد أن وجدوا سيلا من الإشادات على كل شكل ولون، لأن أبوالغيط نشأ في أسرة إخوانية، وتزوج من فتاة والدها المهندس الأكاديمي السيد حسن شهاب، أحد قيادات الإخوان، والمحبوس في أحد السجون المصرية منذ سبتمبر 2013.
اختفت تقريبا الإشارة إلى أي جذور إخوانية له، أو تاهت وسط الإشادات، لأن ما كتبه كان بعيدا تماما عن الإخوان، وأكد من عرفوه مبكرا أنه تخلص من الفكرة الإخوانية بالتمرد عليها، ولم يبق منها في تصرفاته شيئا، حيث منحته مروحته الثقافية الواسعة مساحة للتأمل والخروج على جمود الجماعة التي تحصر أصحابها في نطاق سياسي وثقافي واجتماعي ضيق، بينما هو كان صاحب عقل يتسع للجميع.
بدّد تكريمه مؤخرا في الدورة الأولى لمنتدى مصر للإعلام الكثير من الهواجس التي ترددت حول إخوانيته، فالمنتدى رعته الدولة وأشرفت عليه أجهزتها ومن الصعوبة أن يدرج على قوائم التكريم أحد المنتسبين إلى جماعة الإخوان الموضوعة على قوائم الإرهاب، والذي جاء في إطار إسهاماته المتميزة وتجربته الملهمة في مجال الصحافة والإعلام.
كانت المفاجأة أن حفل التكريم ألقى فيه أبوالغيط كلمة مصورة وهو على فراش المرض، ولم يفصل بين الكلمة والوفاة سوى أيام معدودات، وعبر فيها عن عشقه للكتابة، وبث فيها ما استطاع من كلمات تبعث على الأمل للعاملين في الصحافة، ومع أنها أخذت بعدا إنسانيا كبيرا، إلا أنها كانت كفيلة لتأكيد أنه أحد الفرسان في عالم الصحافة الذين يستحقون التكريم في حياتهم وبعد وفاتهم.
تحقيقات استقصائية مثيرة
دارت معظم التحقيقات ذات الطابع الاستقصائي التي أجراها حول السوق السوداء للأسلحة، واستخداماتها في الحروب القذرة، وتطرق إلى ما يحدث في كل من اليمن وسوريا، ولم تبارحه الأبعاد الحقوقية والإنسانية وشغلت حيزا لافتا في كتاباته التي حصل بموجبها على جوائز عالمية.
أدت الإشادة التي حظي بها أبوالغيط بعد رحيله إلى تحويله إلى ما يوصف بـ”أيقونة” صحافية، رأى من اقتربوا منه أنه يستحقها عن جدارة، بينما قال آخرون إنها تعبر عن التمسك بالأمل في الإعلاء من شأن القيمة في وقت بالغ فيه البعض في النفاق وجر مهنة الصحافة إلى مربع لا علاقة له بدورها الحقيقي، ومن الضروري أن يخرج من وقت إلى آخر من يعيد الاعتبار للفكرة الأولى ويدحض الثانية.
تأتي القيمة دوما من المدى الإنساني الذي يصل إليه الشخص ومن انحيازاته الاجتماعية إلى الطبقة الفقيرة، وحسم أبوالغيط خياراته في أولى خطواته نحو العمل في الصحافة، فكانت تدوينته الشهيرة “الفقراء أولا يا ولاد الكلب” عام 2011 هي جواز المرور الذي دفعه إلى هجرة الطب والاتجاه إلى عالم الصحافة، حيث أدت إلى تفاعل كبير معها في وقت ارتفع فيه المد الثوري في مصر إلى عنان السماء.
ساعدت كتاباته عن الحب والمرض والألم والأمل والقدوة ودروس الحياة على منحه أفضلية على الكثير من زملائه، لأن كل القضايا التي دارت في هذا الفلك كان صادقا في التعامل معها والتعبير عنها، ولم ينجر إلى مساحات خلافية شائكة أو مناطق يمكن أن تدفعه إلى خوض معارك خاسرة ربما تستنزف منه وقتا طويلا، ولازمه شعور خفي بأن عمره قصير، وعليه أن ينجز مجموعة كبيرة من المهام قبل رحيله.
نبش الأوراق القديمة
تستحق قصة المعاناة مع سرطان المعدة أن تروى في كتب الطب، وكيفية تخفيف الآلام المبرحة من خلال الأمل والتعلق بالحياة، ووصله حب الناس وهو على فراش المرض في لندن التي تحولت إلى منفى اختياري له بعد مغادرته القاهرة عام 2015 وانسحابه منها بحثا عن ملاذ آمن أبعده عن أجواء شعر بأنها تكبله في كتاباته، فالهواء الذي بدأ الإعلام يتنفسه في ذلك الوقت زاد تلوثه ويصعب أن ينتج صحافة حرة.
أثارت هذه الرحلة بعض الشكوك في توجهات أبوالغيط السياسية وجعلت البعض يتغاضى عن مرضه ومحنته ويفتش في أوراقه القديم، خاصة مع وصيته في إحدى رسائله التي كتبها على صفحته للأصدقاء والزملاء للمساعدة في الإفراج عن والد زوجته، من منطلق إنساني فقط بعد أن شعر بدنو أجله.
يمثل المتفقون مع الراحل محمد أبوالغيط أغلبية ساحقة، وكان للاتفاق وجاهته المهنية والإنسانية والقيمية، بينما القلة التي حاولت التشكيك فيه لم يستمع إليها أحد، لأنها استندت إلى توجهات في مرحلة سابقة بدا فيها التعاطف نسبيا مع جماعة الإخوان، وهي مرحلة شهدت موجة جارفة نحو الجماعة من المنتمين إليها بحكم التنشئة والتربية أو من المغرمين بها والمخدوعين بشعاراتها.
رحل أبوالغيط وآثر أن يكون محل إجماع من المؤيدين للنظام المصري والمعارضين له، وهي حالة يصعب وجودها بسهولة، لكن العنصر المشترك بين الجميع أنه كان شابا نبيلا وصحافيا نابها، أعلى القيمة على ما عداها من خصال سياسية وشخصية، فحق له أن يحصل على محبة من اتجاهات متفرقة مكنته في النهاية من الحصول على ثقة غالية حولته إلى رمز في زمن ندرت فيه الرموز النبيلة.