محكمة العدل الدولية ضحية لازدواجية المعايير

المؤسسات الأممية يتم تهميشها من دول كبرى يفترض بها أن تحميها.
الأحد 2024/06/02
قرارات دون تطبيق

المؤسسات الدولية تجد نفسها في وضع معقد بسبب تجاوز قراراتها من دول مؤثرة، وكل طرف يريد أن تكون القرارات في صفه ولصالحه. وبدت هذه العقدة أكثر وضوحا مع المحكمة الدولية سواء في الموقف من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو في حث إسرائيل على وقف هجوم رفح أو التلويح باعتقال بعض قادتها.

نيويورك- تعتبر محكمة العدل الدولية التي تجاهلت روسيا وإسرائيل قراراتها بشأن غزو أوكرانيا والحرب في قطاع غزة، ضحية عاجزة لنظام تعددي شديد الاستقطاب تسوده ازدواجية في المعايير تخوّل الدول الاختيار ما بين احترام القرارات الملزمة أو تجاهلها، على ما يرى خبراء.

وأمرت أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة روسيا في مارس 2022 بوقف هجومها على أوكرانيا الذي لا يزال جاريا بعد أكثر من سنتين. وفي مايو، أمرت إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية في رفح بجنوب قطاع غزة “فورا”، دون أن تحقق إلى الآن أيّ نتيجة.

وردا على سؤال وكالة فرانس برس عمّا إذا كان رفض الامتثال لقرارات ملزمة قانونا ينمّ عن افتقار محكمة العدل الدولية إلى المصداقية أو المشروعية، رأى محللون أن هذا غير صحيح حكما، معتبرين أن على الدول تحمل مسؤولياتها.

وقالت رافايل نوليه غولدباخ الباحثة في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا إن “الدول اختارت عدم تشكيل قوة شرطة أو قوة مسلحة دولية”.

◄ أذن من طين وأخرى من عجين
أذن من طين وأخرى من عجين

وتابعت أنه نتيجة لذلك فإن محكمة العدل الدولية “تعوّل على إرادة الدول وتعاونها لتطبيق قراراتها. وبالطبع، هذا يعكس حدودا معينة”.

لكنها لفتت إلى أن “إصدار أحكام قانونية بشأن نزاع في صلب أحداث الساعة وبالتزامن مع أحداثه، هذا بحدّ ذاته بالغ الأهمية”.

من جانبه، أعلن المكتب الإعلامي التابع لمحكمة العدل أن “الدول تطبق كل قرارات المحكمة تقريبا” معترفا رغم ذلك بأن “حالات عدم الاحترام القليلة، وهي استثناء، لها وطأة شديدة على العلاقات الدولية”.

لكن الخبراء يشددون على أن محكمة العدل ليست هي المسؤولة عن ذلك.

وقال لوي شاربونو من منظمة هيومن رايتس ووتش إن “مشكلة المصداقية الحقيقية نابعة من الحكومات التي تعتمد سياسة الكيل بمكيالين”.

ولفت إلى أن بعض الدول الغربية “رحبت” بالقرار حول أوكرانيا لكنها أبدت “قلقا” في ما يتعلق بإسرائيل. وعلى العكس، فإن دولا مثل جنوب أفريقيا التي اتهمت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب “إبادة جماعية” بحق الفلسطينيين في حربها مع حركة حماس بقطاع غزة، “لم تعتمد نبرة شديدة جدا حيال الفظاعات الروسية في أوكرانيا”.

وأكد أن على الدول أن تحترم قرارات القضاء الدولي “من أجل أصدقائها وحلفائها، كما من أجل خصومها” وإلا فإن “ذلك يعطي حكومات أخرى `ذرائع” لتجاهلها.

وإن كانت قرارات محكمة العدل الدولية تُنفذ بصورة عامة، ينبغي التمييز بين غالبية من القضايا “بلا أهمية كبرى” حول خلافات حدودية أو تفسير معاهدة، وعدد من الملفات “ذات الحساسية السياسية” والمتعلقة بـ”الجرائم الدولية الجوهرية”، على ما أوضحت كيسو نيا من “المجلس الأطلسي” للدراسات.

وهي تشير بصورة خاصة إلى الشكاوى التي رفعتها دول غير ضالعة هي نفسها في القضية، مثل شكوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أو شكوى غامبيا ضد بورما لاتهامها بارتكاب “إبادة جماعية” بحق أقلية الروهينغا المسلمة.

ورأت أن “الخطر مع تزايد القضايا على هذا الأساس هو أن تسعى بعض الدول للخروج من المعاهدات القائمة”.

وفي مطلق الأحوال، فإن عددا من الدول مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وإسرائيل وغيرها، لم تنضم إلى نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية، الهيئة القضائية الدولية الأخرى التي تقع حاليا في صلب الأحداث.

لوي شاربونو: مشكلة المصداقية الحقيقية نابعة من الحكومات التي تعتمد سياسة الكيل بمكيالين
لوي شاربونو: مشكلة المصداقية الحقيقية نابعة من الحكومات التي تعتمد سياسة الكيل بمكيالين

وأثارت مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وطلب مدّعيها العام كريم خان إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وثلاثة من قادة حماس، تنديدا واحتجاجات من جانب المستهدفين، مرفقة أحيانا بضغوط وتهديدات بأعمال انتقامية.

ورأت كيسو نيا أن “هذا يعكس إلى أيّ حد يُنظر إلى (هذه الآليات) بجدية”، حتى من قبل الذين يرفضونها.

واعتبر روموالد سيورا الباحث في معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية أن مسألة المصداقية لا تتوقف على محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية.

وقال إن “مجمل مؤسسات النظام التعددي فقدت من مصداقيتها بصورة متزايدة منذ بضع سنوات”.

ولفت إلى أن “الأمم المتحدة السياسية” ولاسيما مجلس الأمن شديد الانقسام، “باتت قزما” على الساحة الدولية.

وما يزيد من حدة المشكلة أنه خلافا لمحكمة العدل الدولية التي لا تملك أيّ وسيلة لتطبيق قراراتها من تلقاء نفسها، فإن مجلس الأمن لديه سلطة اتخاذ “تدابير” بهذا الصدد، عملا بميثاق الأمم المتحدة.

ومع مواصلة إسرائيل عملياتها في رفح، طلبت جنوب أفريقيا هذا الأسبوع من مجلس الأمن تطبيق أمر الهيئة القضائية.

لكن سعيد بن عربية من لجنة الحقوقيين الدولية رأى أن “شلل مجلس الأمن يمنعه عمليا من تطبيق قراراته هو نفسه، فكيف له أن يطبق قرارات محكمة العدل الدولية؟”.

وأحيانا لا يتعلق الأمر بازدواجية المعايير فقط، فهناك حالات تجد فيها مختلف الأطراف نفسها عاجزة عن التحرك والاكتفاء بالتصريحات، مثل ما حصل في ردة فعل إسرائيل على إلزامها بوقف الهجوم على رفح.

ولم يكن الهجوم على المخيمات جزءا من الهجمات اليومية الإسرائيلية على المدنيين، وحدّته بدأت تظهر أم أن المقصود منه هو تحدي المحكمة الدولية ومن يراهن عليها لتنفيذ القانون، خاصة ما تعلق بحياة المدنيين.

وقال جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، إن واشنطن تعارض فرض عقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية بسبب سعيها لإصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين فيما يتعلق بحرب غزة.

وكان الموقف الأميركي أكثر وضوحا، حيث أكد مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل وجوب تطبيق قرار محكمة العدل الدولية الداعي لوقف الهجمات العسكرية على رفح.

وبعد أن أمرت محكمة العدل الدولية، أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، الجمعة إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية في رفح “فورا”، قال بوريل إن “الجميع متفق على أن قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة ويجب تنفيذها”.

لكنه أقر بأن “هناك بالفعل معضلة حول كيفية قيام المجتمع الدولي بفرض تنفيذ” هذه القرارات.

حدة الهجوم الإسرائيلي في رفح تظهر أن المقصود هو تحدي المحكمة الدولية ومن يراهن عليها لتنفيذ القانون

وطالبت منظمات دولية غير حكومية مجلس الأمن الدولي باتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان تنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية بشأن الحرب الإسرائيلية على مدينة رفح جنوب قطاع غزة.

جاء ذلك في بيان مشترك، صادر عن 19 منظمة دولية غير حكومية، أبرزها منظمة أوكسفام، والمجلس النرويجي للاجئين، ومنظمة أكشن إيد، والمعونة الطبية للفلسطينيين.

وأشار البيان إلى وجود حاجة ماسة لاتخاذ إجراءات فورية لدعم القانون الدولي وضمان التزام الحكومة الإسرائيلية بقرارات محكمة العدل الدولية.

وأوضح البيان أن محكمة العدل الدولية طالبت إسرائيل بوقف هجماتها على رفح وفتح المعبر الحدودي مع مصر أمام المساعدات الإنسانية دون عوائق.

6