"محاولة".. روائي قصير يُسائل ماهية الثورة

تحفل أفلام السينما بتقديم حالة من التوثيق المجتمعي لما قد تفرضه الحياة من تطوّرات وحراك شعبي هنا وهناك. فتسجّل بكاميراتها عبر تجارب وثائقية أو روائية أحداثا تنتقل للأجيال اللاحقة مقدّمة لهم الوثيقة التاريخية والبصرية. وما يحدث راهنا في لبنان يشكّل حافزا كبيرا لدى بعض المبدعين فيه لتوثيق أحداثه، وهو ما قامت به المخرجة اللبنانية الشابة باميلا نصور في فيلمها الروائي القصير “محاولة”.
تحضر حالة الفوضى والصخب الفكري والسياسي التي يعيشها لبنان منذ مدة في فيلم باميلا نصور “محاولة”، وتشكّل ديدنا نتلمّس وجوده في كل زمن الفيلم وتفاصيله على امتداد دقائقه التي قاربت السبع عشرة. هو فيلم يُعنى بزمن ما بعد الثورة الشعبية في لبنان، حيث الكثير من منابر الإعلام والتراشق الفكري والسياسي.
تنهي نصور فيلمها بعبارة كتبتها إلى مدرّسها، قائلة “إلى ألفريد الذي عرفته من سنين.. إلى صوته وكلماته التي لا تزال تتردّد صاخبة صافية”. قدّمت نصور فيلمها حديثا في بيروت مشاركا في المهرجان اللبناني للسينما المستقلة في دورة كانت مخصّصة للصحة النفسية.
يتقاطع الفيلم مع الأحداث الساخنة التي يعيشها لبنان وكل المنطقة العربية في الوقت الحالي، ويقترب حتى مسافة الصفر من حالة الضجيج الفكري والتشويش الذي يحدثه الإعلام بشكل يحاصر الناس فيه بأدقّ تفاصيل حيواتهم اليومية.
فربة البيت تعدّ طبختها وهي تستمع إلى ندوة سياسية وزوجها المدرّس يصحّح الفروض المدرسية وأصوات الخطب السياسية تحاصره من كل اتجاه، حتى الشباب في الأماكن العامة يتبادلون الصور مع بعضهم في المظاهرات التي يعيشونها يوميا بشكل عبثي وعلى خلفية هذا الضجيج والثرثرة.

باميلا نصور: تصحيح مسار الثورة ينطلق من لفظ الكلمة بشكل صحيح
في قلب الفوضى
انتفض الشعب في لبنان على واقعه وعاش غليانا اجتماعيا، وشاركت جموعه في أحداث السابع عشر من أكتوبر 2019 التي لم يشهد لبنان مثيلا لها في تاريخه. لكن لحظة هاربة مأزومة تقف حاجزا بين هذا الحراك بما يمثله من حقيقة واقعة وبين فهم البعض من الناس لفكرة الثورة والتغيير. فالثورة كما يراها البعض أكبر من تغيّر آني يحدث بين لحظة وأخرى، ولا بد فيها للكثير من البعد الفكري والزمني الذي يستلزم مروره حتى تنجح وتصبح راسخة.
باميلا مخرجة الفيلم تأثّرت في مرحلة شبابها بمدرّس كان سببا مباشرا في اكتسابها المزيد من الوعي السياسي، وعلى يديه وعت تاريخ بلدها وتياراته الفكرية المختلفة.
وفي ذلك تقول “في مرحلة الدراسة المبكّرة، شكّل مدرّسي لمادة التاريخ ألفريد نجم وعيا سياسيا كبيرا خاصا بي، هذا الوعي كان ذخيرة لي في مساري العلمي ومن ثم المهني، كان يعلمني أن الإنسان يجب أن يعرف تاريخه وتاريخ بلده الكامل وطبيعته المجتمعية وأن الحراك الاجتماعي والثورات لا يمكن إلاّ أن تكون مبنية على دعائم فكرية قوية، وأن التغيير لا يكون بين ليلة وضحاها. وأثناء معايشتي للكثير من تفاصيل الثورة الشعبية التي قامت في لبنان لمست مدى أهمية كلامه”.
وتوضّح “البعض كان معتقدا أن الثورة هي بعض المشاركات في عدد من المظاهرات أو الاحتجاجات وأن التغيير سيأتي ويقدّم كل الحلول التي يريدها المجتمع، بل إن البعض لم يكن يميّز بين مفردة الثورة و’السورة’ كما تنطق بالعامية اللبنانية. لذلك كانت شخصية ألفريد بطل الفيلم الذي يحتجّ على جهل بعض المحيطين به بالواقع، فارضا عليهم نطق كلمة ثورة وليس سورة”. وتتابع نصور في نقل وجهة نظر المدرّس ألفريد “هذا المدرّس الواعي كان يقول من لا يعرف تاريخه محكوم عليه بتكراره، وهي الجملة التي أوردتها في الفيلم”.
المدرّس الذي أنهكته الحياة القاسية التي يعيشها، يحاول ألاّ يكون منخرطا في قلب حدث يشعر بأن الفهم تجاهه ليس سويا، وأن معظم من يشاركون به لا يعرفون فيه إلاّ السطح ويحاول دفعهم إلى المزيد من المعرفة في عمقه حتى يتمكنوا من الوصول إلى نتائج أفضل. هذا القرار الذي اتخذه بعدم الانخراط بقوة في حدث يراه محتاجا للمزيد من المعرفة، لا يمنعه ذات مرة من الانجراف مع الأجواء الطلاببة الصاخبة حوله ومشاركتهم الحدث.
وفي نهاية الفيلم ومن خلال لقطة هادئة فنيا وقاسية فكريا، يحسم أمره ويتّخذ موقفا تجاه ما يراه، فيكتب على ورقة امتحان طالبة لديه اكتشف عندها خطأ لغويا فكتبت كلمة سورة وتعني بها ثورة. فما كان منه إلاّ أن شطب ما كتبته باللون الأحمر ثم كتب، “ثورة بالثاء وليس بالسين”. متّخذا موقفا صداميا مع بعض الناس الذين التحقوا بركب الثورة بشكل مسطّح وهم لا يعلمون مدى عمق هذه الكلمة ومحتواها الحقيقي.
وشارك في بطولة فيلم “محاولة” كل من جوزيف شمالي وديما مرعب ومارك أبوفرحات وديانا نجيم وأنطونيو شديد وربال مرعي وضومط دويهي وتوماس الدويهي وأنطواني مسلم ولاريسا أيوب ومايا فاضل، وهو عن سيناريو وإخراج لباميلا نصور.
حالة صدام

الفيلم يلخّص ثورة السابع عشر من أكتوبر اللبنانية في سبع عشرة دقيقة، مبرزا رمزية الرقم
أنجزت نصور قبل فيلمها الثاني “محاولة” فيلما تجريبيا حمل عنوان “إلى حيث”، وحققت من خلاله حضورا جيدا في العديد من المحافل السينمائية العالمية وتحصلت على العديد من الجوائز. لكنها في “محاولة” تتّجه نحو الفيلم الروائي، وعن ذلك تقول لـ”العرب”، “عندما نفّذت فيلمي الأول كنت أنوي تنفيذ فيلم تجريبي وهو الخط الذي أحبه، لكنني رغبت في فيلمي الثاني أن أقدّم حكاية ما، وكوني سينمائية تعيش في لبنان حيث الأحداث الجسام والمتسارعة التي يمرّ بها البلد، ولأنني أرى أن السينما رسالة ومسؤولية وجدت أنه من الضروري أن أقدّم حكاية عمّا يعيشه البلد في هذه الظروف الاستثنائية، والسينما خير وسيلة لفعل ذلك”.
وتضيف “كان قراري ألاّ أنتج فيلما وثائقيا كلاسيكيا، لأن الكثيرين قاموا بذلك وسجلوا بكاميراتهم مشاهد حقيقية لما يجري. فأردت الاشتعال على فيلم مختلف من خلال حبكة السخرية التي منها أستطيع أن أقدّم شيئا مُغايرا. نحن نمنا وأفقنا فوجدنا التغيير قد جاء وكان سريعا جدا. وعندما خلقت شخصية ألفريد تخيّلت معها قصة الفيلم التي كانت أحداثها موثقة وغير خيالية، إذ قمت فقط بإعادة صياغتها بطريقة واقعية”.
وفي منعطف فكري، يتّجه الفيلم إلى إطلاق حكم قيّمة على موضوعة التعامل مع الثورة بشكل معمق لا شكلاني، من خلال طبيعة المشاركة فيه وما قد يلحقه ذلك من فهم خاطئ لموقف مخرجته من الثورة وإمكانية خلق حالة صدامية من بعض الشرائح المشاركة.
وعن ذلك تقول نصور “لم أتكلم في الفيلم عن شيء لم يحدث وصوّرت ما جرى في الشارع فعلا، الحدث كان طاغيا وكان ضمن دائرة اهتمام الجميع حتى من هم في البيوت. كل وسائل الإعلام كانت متفاعلة والناس يحكون عن الثورة حتى في المقاهي. جسّدت هذه الحالة في الفيلم ومن يحضره سيذكر ما كان يحدث حينها في الشارع. لم أخش من مواجهة الناس الذين تعاطوا مع الفكرة بسطحية، لأنها شريحة موجودة فعلا وعن نية طيبة”.
وتتابع “لم يكن الهدف الصدام مع الناس، فلكي تقوم بثورة عليك فهم التاريخ وهي بالتأكيد ليست رحلة ترفيهية، التغيير صار سريعا وبعض الناس تعامل مع الموضوع بعفوية. فلم يميّز حتى بين كلمتي السورة والثورة التي هي التزام وجهد معرفي وتراكمي كبير. لم أنو الصدام مع أحد لأنني مؤمنة بأنني أمتلك بالسينما وسيلة إيضاح للناس، وأنا من خلالها أساهم في التغيير، فلو مارس كل منا القدرة على التغيير في مجاله لحققنا خطوات للأمام، فكما غيّر المدرّس ألفريد في محيطه أرى أن السينما قادرة على تقديم التوعية للأجيال القادمة لما فيه خير الجميع”.
