محاسن الجنيه الضعيف ومساوئه

لا يمكن تحمل عبء الديون الذي تبنيه حكومة الرئيس عبدالفتاح السيسي، حيث تترك السياسات الحكومية اقتصاد البلاد عرضة للصدمات الخارجية، رغم التخفيف الناتج عن تخفيض قيمة الجنيه المصري في الحادي والعشرين من مارس.
القاهرة - لا يزال النظام المصري بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي يواجه سيلا من التساؤلات حول الآثار المحتملة للتخفيض في قيمة الجنيه، وهو الإجراء الذي تم اتخاذه في وقت سابق في سياق الجهود الرامية إلى التخفيف من حدة ارتدادات الحرب الروسية في أوكرانيا.
وفي الحادي والعشرين من مارس الجاري، سمح البنك المركزي المصري بتخفيض قيمة الجنيه بنسبة 14 في المئة مع رفع أسعار الفائدة الرئيسية بمقدار 100 نقطة أساس، ليصبح 9.25 في المئة على الإيداع، و10.25 في المئة على الإقراض.
ويصاحب هذه الخطوة احتمال متزايد للحصول على قرض آخر من صندوق النقد الدولي. وقد كشف تخفيض قيمة الجنيه عن هشاشة نموذج التنمية الاقتصادية الحكومية وفشل النظام في معالجة القضايا الاقتصادية الهيكلية الرئيسية، حيث اختار الرئيس السيسي الاستثمار في مشاريع ضخمة ذات جدوى اقتصادية مشكوك فيها.
العجز المالي
تواجه مصر تحديات اقتصادية هائلة ناجمة عن السياق الدولي الجديد الذي فرضته الحرب الروسية – الأوكرانية، ما جعلها تلجأ إلى خيار الاقتراض مجددا كإجراء وقائي، بحسب ما تقول الحكومة، لكن ذلك وضع تحت المجهر السياسات الاقتصادية التي تتبناها الحكومة.
يقول المحلل السياسي ماجد مندور، وهو كاتب عمود “سجلات الثورة العربية” لدى موقع “أوبن ديموكراسي”، “يمكن تشبيه سياسة النظام الاقتصادية بمخطط بونزي تغذيه الديون”.
وأضاف مندور، الذي يغطي شؤون العالم العربي مع التركيز بشكل خاص على التغيير الاجتماعي في الشرق الأوسط بعد الربيع العربي، وهو أيضا كاتب في “صدى” في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ومساهم منتظم في عرب دايجست وميدل إيست آي، أن “هذه السياسة صُممت لإثراء المؤسسة العسكرية، ودائني النظام الأجانب والمحليين، بينما يترك الاقتصاد بشدة للصدمات الخارجية، مثل الغزو الروسي لأوكرانيا. وكان تمويل سياسة إثراء النخبة من خلال نظام ضريبي رجعي ينقل الدخل والثروة من الطبقات الوسطى والدنيا إلى النخب العسكرية، مما يعمق الفقر المستوطن بالفعل”.
وقال رجل مصري في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي “أراك يا سيسي، أناشدك في الله. أيا كان ما وعدت به، فأنت لا تقدمه. أنت تقول إنه يمكننا أن نحيا حياة جيدة، لكن ذلك لم يحصل”.
لكن جوهر سياسة النظام الاقتصادية يكمن في الاستثمار المكثف في مشاريع البنية التحتية الضخمة، التي تغذيها الديون وخفض العجز المالي، وهي سياسة لم تعمل في الواقع على زيادة تنافسية الاقتصاد المصري، الأمر الذي انعكس في تدهور وضع الاقتصاد الخارجي.
ويظهر ذلك في نسبة الناتج المحلي الإجمالي، والذي بلغ -4.6 في المئة في 2021، أي ضعف ما كان عليه في 2018. ويعد هذا الوضع الخارجي الهشّ أحد الأسباب الرئيسية لانخفاض قيمة العملة.
ومن الناحية النظرية، من المتوقع أن يؤدي ضعف العملة إلى تحسن أداء الصادرات. ومع ذلك، وفي حالة مصر، لم يكن هذا هو الحال. فعلى سبيل المثال، لم يؤد تخفيض قيمة العملة في 2016، حيث فقد الجنيه ما يقرب من نصف قيمته، إلى تحسن عجز الحساب الجاري. وقد ارتفع العجز من -5.9 في المئة في 2016 إلى -6.1 في المئة في 2017.
وكما في 2016، من المتوقع أن يؤدي آخر تخفيض لقيمة العملة إلى موجة تضخمية تؤثر بشكل غير متناسب على الفقراء والطبقة الوسطى. لكن هذا النقص في القدرة التنافسية الدولية يعدّ مشكلة هيكلية لم يحاول النظام معالجتها منذ ثورة الثلاثين من يونيو 2013، واختار بدلا من ذلك بناء المدن والطرق والجسور.
فورة الإنفاق
تكمن هشاشة هيكلية أخرى في تمويل فورة الإنفاق هذه، من خلال الديون، 24 في المئة منها مقومة بالعملات الأجنبية والاعتماد الشديد على الأموال الساخنة (أي رأس المال الذي يُحوّل بشكل متكرر بين المؤسسات المالية في محاولة لتعظيم الفائدة أو مكاسب رأس المال)، التي وصلت إلى 33 مليار دولار أو 13 في المئة من إجمالي الأوراق المالية.
لكن قضية الاعتماد على الديون مضاعفة وفقا لخبراء اقتصاديين، إذ سيضطر النظام أولا إلى تقديم أسعار فائدة عالية جدا لجذب المستثمرين، الأمر الذي يضغط على الميزانية الحكومية (التي تمثل حاليا ثلث إجمالي الإنفاق الحكومي). وثانيا، يضع الاقتصاد تحت رحمة التدفقات المالية الدولية باعتباره خطرا.
ويسعى المستثمرون الرافضون إلى ملاذات أكثر أمانا لرؤوس أموالهم، مما يفرض ضغطا إضافيا على قيمة الجنيه، لأنه يضع ضغوطا على الاحتياطيات الأجنبية في حالة نزوح جماعي لرأس المال.
وهذا بالضبط ما حدث بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث حدثت تدفقات رأسمالية إلى الخارج تقدر بنحو 3 مليارات دولار بعد الرابع والعشرين من فبراير.
وقال مندور إن “الاعتماد الكبير على الديون يسلط ضغوطا على النظام للإبقاء على أسعار فائدة مرتفعة (وهي تعد بالفعل أحد أعلى المعدلات في العالم)، في حالة ارتفاع أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة. وهذا، في الواقع، هو السيناريو المتوقع، حيث يفكر بنك الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة. وهو ما سيزيد من تكلفة خدمة ديون مصر، وما سيضع المزيد من الضغط على ميزانية مرهقة بالفعل”.
وأوضح أن “خفض العجز المالي، الذي كان يجب أن يؤدي إلى زيادة الاستثمار الخاص حسب أسس النيوليبرالية قد فشل، كما يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن الأرقام التي قدمها النظام خاطئة. فعلى سبيل المثال تقلص العجز المالي من -11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2015 إلى -6.3 في المئة في 2021”.
ومن المتوقع أن يصل هذا الانخفاض إلى -4.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2026. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن المشروع الرائد للنظام، مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، يبقى ذا تكلفة تقديرية تبلغ 58 مليار دولار من ميزانية الدولة. وبالتالي، لم يتم تضمينه في الأرقام أعلاه. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مصادر تمويل صفقات السلاح الضخمة غامضة وليست جزءا من ميزانية الدولة. وبالتالي فإن أي حديث عن الانضباط المالي هو أمر مضلل في أحسن الأحوال.
كما كان أداء القطاع الخاص غير مرضيّ، حيث تقلص خلال الأشهر الخمسة عشر الماضية، ووصلت معنويات الأعمال إلى أدنى مستوى لها في عشر سنوات.
وتجعل هذه الهشاشة الهيكلية الاقتصاد عرضة للصدمات الخارجية. وحدث هذا خلال الحرب في أوكرانيا، التي لم تؤد فقط إلى تدفق رأس المال إلى الخارج، ولكنها أدت إلى زيادة أسعار القمح أيضا، مما زاد من الضغط على ميزانية الدولة. وتعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، حيث تستورد 54 في المئة من احتياجاتها من روسيا، و15 في المئة من أوكرانيا، ويعتبر سعر الخبز مسألة سياسية حساسة للغاية. فعلى سبيل المثال، بمجرد أن بدأ سعر الخبز غير المدعوم في الزيادة، تحركت الحكومة لفرض ضوابط على الأسعار، ولزيادة السعر الذي تقدمه الحكومة للقمح المحلي بهدف شراء 6 ملايين طن محليا، مقابل 3.5 مليون طن القياسية. ولن يفعل الكثير لوقف موجة التضخم المتوقعة بسبب انخفاض قيمة العملة. ومن المتوقع أيضا أن تضر الحرب بالسياحة، التي بلغت إيراداتها 13 مليار دولار في عام 2021.
واستنتج مندور أن “نموذج النظام الاقتصادي قد فشل، حيث لم ينجح في إنشاء قاعدة اقتصادية قوية، وفشل في خفض مستويات الفقر. كما أدى ذلك إلى زيادة تعرض الاقتصاد المصري للتدفقات المالية الدولية وأدى إلى التحويل المنهجي للثروة من الفقراء والطبقة الوسطى إلى النخب. ولن يؤدي تخفيض قيمة الجنيه إلى وضع تنافسي دولي أفضل، لكنه سيسمح للنظام باقتراض المزيد من الأموال، كما يتضح من انتعاش سعر السندات المصرية بعد قرار تخفيض قيمة العملة”.