محادثات إسطنبول تعيد خلط أوراق الدعم الغربي لأوكرانيا

مع انعقاد أول محادثات مباشرة بين روسيا وأوكرانيا منذ عام 2022، تتحول إسطنبول إلى ساحة اختبار حقيقية ليس فقط لجدية السلام، بل أيضا لتماسك الدعم الغربي لكييف. ففي ظل مؤشرات متزايدة على إرهاق الحلفاء وتبدل الأولويات الدولية، قد يكشف هذا اللقاء عن حدود التضامن الغربي، أكثر مما يفتح آفاقا لحل سياسي حقيقي.
إسطنبول - تتجه أنظار العالم إلى إسطنبول اليوم الخميس، حيث تنعقد أول محادثات مباشرة بين روسيا وأوكرانيا منذ انهيار مفاوضات 2022، غير أن هذا التطور، الذي يحمل في ظاهره بادرة أمل لوقف الحرب الأكثر دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ينطوي في عمقه على احتمالات تعقيد المشهد الدولي أكثر مما يُبشر بانفراج.
ويرى المحلل السياسي ستيف جوترمان في تقرير نشره موقع أوراسيا ريفيو نقلا عن إذاعة أوروبا الحرة أن المحادثات تبدو أقرب إلى اختبار ضغط للدعم الغربي لأوكرانيا منها إلى مفاوضات جدّية لإنهاء الحرب.
وعلى مدى العامين الماضيين، تحوّل الصراع الروسي – الأوكراني إلى ساحة استنزاف كبرى، لموسكو أولا، ثم لكييف، ولكن أيضا للغرب، الذي يقف داعما سياسيا واقتصاديا وعسكريا لأوكرانيا.
ورغم التماسك الظاهري في صفوف حلفاء كييف، فإن تطورات الأشهر الأخيرة، وخاصة على المستويين الأميركي والأوروبي، تكشف عن تصدعات متزايدة في جدار الدعم، لاسيما في ظل تآكل الزخم السياسي واستحقاقات الانتخابات، وتنامي أصوات تدعو إلى مراجعة الانخراط في هذا الصراع.
واشنطن تسعى إلى تحميل أي فشل محتمل للطرف الذي يرفض الفرصة، ما قد يستخدم لاحقا كذريعة لتقليص الدعم أو إعادة تقييم الموقف
وجاءت مبادرة المحادثات المباشرة، بدفع من الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب، لتشكل لحظة فاصلة. فالدعوة إلى المحادثات، التي أُطلقت أولا من واشنطن في السابع من مايو على لسان نائب الرئيس جيه دي فانس، ثم دعمتها قيادات أوروبية بدعوة إلى هدنة لمدة 30 يوما، لا يمكن قراءتها بمعزل عن التبدلات داخل معسكر داعمي أوكرانيا.
ولعل أبرز ما يثير القلق في هذا السياق، هو أن هذه المبادرة جاءت من خارج السياقات المعتادة لمفاوضات الأزمة، وتجاوزت آليات التنسيق الأطلسي، ما يشي بأن الغرب لم يعد يتحدث بصوت واحد.
ولا يفسر الرد الروسي، الذي جاء عبر دعوة فلاديمير بوتين إلى محادثات مباشرة في إسطنبول، إلا كخطوة مدروسة لتفكيك جبهة الدعم لأوكرانيا من الداخل. فبوتين، الذي ظل يرفض شرعية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، عاد ليطلب لقاءً مباشرا معه، في ما يبدو أنه اعتراف ضمني بمركزية الرجل، وبتآكل مبررات الحرب التي انطلقت تحت شعار “اجتثاث النظام غير الشرعي في كييف”. ولكن هذا التنازل التكتيكي، لا يعكس بالضرورة نية روسية صادقة للوصول إلى تسوية، بقدر ما يُترجم حاجة إستراتيجية إلى كسب الوقت، وإعادة خلط الأوراق الدولية.
وفي الوقت ذاته، فإن استعداد زيلينسكي للذهاب إلى إسطنبول، وتحديه العلني لبوتين بالحضور، يكشف عن تناقض عميق في الموقف الأوكراني. فمن جهة، تسعى كييف إلى إثبات نيتها التفاوضية أمام المجتمع الدولي، خصوصا أمام الشركاء الأوروبيين الذين باتوا يُبدون ضيقا متزايدا من طول أمد الحرب.
ومن جهة أخرى، يعي زيلينسكي تماما بأن المطالب الروسية، التي تشمل التنازل عن أراض أوكرانية وإخضاع كييف لقيود أمنية شاملة، تبقى مرفوضة بالكامل من قِبل مؤسسات الدولة والمجتمع الأوكراني.
ويزداد هذا التوتر الداخلي في الموقف الأوكراني، تعقيدا مع دخول دونالد ترامب بثقله في الملف، عبر إشارات متكررة إلى رغبته في لعب دور الوسيط الحاسم، بل وتلميحه إلى إمكانية الحضور شخصيا في إسطنبول، أو إرسال مبعوثين رفيعي المستوى.
ويبدو ترامب، الذي لطالما عبّر عن تحفظه تجاه الدعم المفتوح لأوكرانيا، في هذه المرحلة حريصا على تسويق نفسه كصانع سلام، ولكن وفق صيغة تتواءم مع رؤيته الواقعية لمصالح الولايات المتحدة، وليس مع ما تطمح إليه كييف من دعم غير مشروط.
ولم يكن التحول في نبرة واشنطن تجاه أوكرانيا خفيا. ففي الأسابيع الأخيرة، انتقلت الإدارة الأميركية من الإصرار على هزيمة روسيا، إلى الحديث عن “الفرصة التفاوضية”، وعن “ضرورة اختبار نوايا موسكو”، بل إن تصريحات ترامب في الحادي عشر من مايو، التي دعا فيها كييف إلى القبول فورا بعرض بوتين للحوار، تعكس ضغطا متزايدا على زيلينسكي للانخراط في تسوية ما، قد تعني في نهاية المطاف تفويضا غير مباشر من الغرب للتخلي عن بعض المكاسب أو الطموحات.
وإذا ما أُضيف إلى ذلك الحذر الأوروبي، فإن صورة الدعم الغربي تبدأ بالتشقق فعليا. ففي ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وتصاعد اليمين الشعبوي في عدد من العواصم الأوروبية، صار الانخراط في دعم أوكرانيا يُنظر إليه كعبء سياسي داخلي، وليس كضرورة إستراتيجية. وبدلا من تقديم دعم بلا سقف، بدأت العواصم الأوروبية تضغط نحو “حل دبلوماسي”، ولو كان ذلك على حساب المطالب السيادية لأوكرانيا.
لكن المعضلة الكبرى، تكمن في أن شروط موسكو التفاوضية لا تزال غير واقعية، بل متشددة أكثر مما كانت عليه في 2022. فروسيا تطالب الآن باعتراف صريح بضم أربع مناطق أوكرانية إلى الاتحاد الروسي، وهي مناطق لا تزال أجزاء كبيرة منها تحت السيطرة الأوكرانية. كما ترفض موسكو أي صيغة أمنية تسمح لأوكرانيا بالانضمام إلى الناتو أو بناء علاقات دفاعية مستقلة مع الغرب. وهذه المطالب تُعد عمليا استسلاما كاملا من أوكرانيا، ولا يمكن لأي قيادة في كييف القبول بها دون الانتحار السياسي.
ويعزز هذا الفارق الهائل في المواقف من احتمال فشل محادثات إسطنبول، بل وربما نسفها. ومع كل فشل في المسار التفاوضي، تتجه الأنظار إلى الطرف المسؤول عن العرقلة. وهنا، يكمن التحدي الأخطر لأوكرانيا، إذ إن الغرب، وفي مقدمته واشنطن، يسعى إلى تحميل أي فشل محتمل للطرف الذي يرفض “الفرصة”، ما قد يُستخدم لاحقا كذريعة لتقليص الدعم أو إعادة تقييم الموقف.
رغم التماسك الظاهري في صفوف حلفاء كييف، فإن تطورات الأشهر الأخيرة، وخاصة على المستويين الأميركي والأوروبي، تكشف عن تصدعات متزايدة في جدار الدعم
وفي المقابل، تُراهن روسيا على هذا الضغط الدولي المتصاعد، وتُدرك أن الوقت قد يلعب لصالحها إن نجحت في إظهار نفسها كطرف “معتدل” يسعى للسلام، مقابل أوكرانيا “متشددة” مدفوعة من حلفاء لا يريدون إنهاء الحرب.
ومن هنا، فإن أي فشل للمفاوضات، ستحرص موسكو على توظيفه إعلاميا وسياسيا لإعادة تفعيل علاقاتها مع بعض القوى الغربية، وتحسين موقعها في المفاوضات الدولية اللاحقة.
ولا يفتقر الرهان الروسي على انقسام الغرب إلى أسس واقعية. فالحملة الانتخابية في الولايات المتحدة كشفت عن انقسام عميق حول أولوية الصراع في أوكرانيا، كما أن انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة قد تُفرز توازنات أكثر ميلا للانعزال والواقعية السياسية. وفي ظل كل هذا، فإن قدرة أوكرانيا على الحفاظ على زخم الدعم تبدو أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
وفي المحصلة، فإن محادثات إسطنبول، رغم كل ما تحمله من رمزية، قد تكون أقرب إلى لحظة اختبار كبرى لمستقبل الدعم الغربي لأوكرانيا، وليس مجرد مناسبة للبحث في وقف إطلاق النار.
وإذا ما فشلت هذه المحادثات، فإن العواقب قد لا تقتصر على استمرار الحرب، بل قد تمتد إلى تغير في مقاربات الحلفاء، وربما إلى تسوية مفروضة لاحقا بشروط غير متوازنة.
وتجد أوكرانيا، التي تخوض صراعا وجوديا، نفسها بين مطرقة العدو وسندان الحليف المتردد.
وأما روسيا، فهي تُراهن على الإرهاق الإستراتيجي للغرب، وعلى أن الزمن قد يكون سلاحها الأقوى في كسر شوكة الدعم الذي شكل طوق النجاة لأوكرانيا منذ بداية الغزو.
وبين هذين المسارين، يظل مصير السلام في أوكرانيا معلقا على قدرة الأطراف الدولية على التمسك بمبادئها، أو على استعدادها لتقديم تنازلات قد تُخلّ بتوازنات ما بعد الحرب.