مجاذيب الصوفية التونسية يجتمعون على مسرح الباليه

غاصت فرقة باليه تونسية بجمهورها من خلال تقديمها عرضا راقصا ضمن فعاليات الدورة الثانية لتظاهرة “ديسمبر للرقص”، في عوالم شخصيات صوفيّة متغلغلة في الفلكلور التونسي وهي “بوسعديّة”، “شيخ البلّوط” و”عكاشة”.
تونس - قدمت فرقة الباليه الجديدة للرقص التونسي التي كانت تسمى سابقا الفرقة الوطنية للفنون الشعبية، على هامش فعاليات الدورة الثانية لتظاهرة “ديسمبر للرقص”، عرضا راقصا بعنوان “المجاذيب”.
و”مجاذيب” أو المجذوب في القاموس الصوفي، هو المنغمس في حضرة الذات الإلهية والمنعزل عن العالم، فيحلق بروحه على أنغام الموسيقى بعيدا عن الواقع، والجذب بالعودة إلى التراث ما يحدث إبان “الزردة” وهي الاحتفاء بأحد الأولياء الصالحين وخلالها يطبخ الكسكسي وترتفع إيقاعات الطبل أو البندير والشقاشق.
وشكل العرض الذي انتظم بمسرح المبدعين الشبان في فضاء “مدينة الثقافة” بالعاصمة التونسية، فرصة أمام الجمهور التونسي الذي حضر بأعداد غفيرة، للتعرف على شخصيات صوفيّة متغلغلة في عمق الفلكلور التونسي وهي “بوسعديّة”، “شيخ البلّوط” و”عكاشة”.
ونجحت فرقة الباليه التابعة لقطب الباليه والفنون الكوريغرافية من خلال موسيقى السطمبالي والعيساوية في جعل الحاضرين هائمين في عوالم مستوحاة من المخيال الشعبي التونسي.
ويأتي ميلاد “السطمبالي” تطهيرا روحيا من قرقعة سلاسل العبودية، حيث يعود تاريخ هذه الموسيقى في تونس إلى جذور أفريقية توثق لرحلة الألم والاستعباد التي شهدها الأفارقة والأحباش القادمون قسرا من جنوب شرق أفريقيا وبحيرة التشاد متوجهين إلى أسواق النخاسة في أوروبا وأميركا، حيث كان هؤلاء يطرقون سلاسل الحديد التي تكبل أرجلهم وأيديهم وسط إيقاع تصاحبه همهمات وأنات الألم والقهر.
واستمتع الجمهور بالعرض الذي انطلق على صوت أنغام “المجاذيب” المتداخلة مع صوت راو يحاكي طريقة الحكواتي الشهير عبدالعزيز العروي، ورافق كل ذلك رنين السلاسل والأصفاد لتعتلي الركح شخصيّة “بوسعدية” أو مجنون سعدية، وهي شخصية تراثية تشير إلى أحد ملوك أفريقيا الذي اختُطفت ابنته سعدية وتم ترحيلها إلى سوق العبيد فهام في المدن البعيدة.
وبوسعدية اختار وضع قناع مخيف لأنه فقد كل المشاعر التي تحيي ملامحه، فخلا وجهه من كل شيء إلا من قناع يمثل الخوف الذي يتملكه، فتحولت رقصته من ألم على ماضيه إلى رقصة ساخرة من الخضوع والإقصاء والعبودية.
ورقصة بوسعدية وألحانه ليست ضجيجا لكسب المال أو الترفيه عن الناس، بل إنها استدعاء لكل ما فقده من حرية وتذكير بما حدث قبل الفقدان، فبوسعدية يروّح عن نفسه من خلال طبله، لأن الموسيقى كانت في نظامه المسلوب وسيلة لشفاء المكروبين.
واشتهرت في تونس رقصة البوسعدية مع ما يعرف بـ”عبيد غبنتن”، وهي مجموعات اختصت في أغاني الطرق الصوفية المتعددة في تونس.
وقدمت الفرقة في الجزء الثاني من العرض شخصيّتي “عكاشة” و”شيخ البلوط” من خلال عيساوية البلوط، وهي تجربة فنية كانت بالنسبة للمشاركين في العرض تجربة جديدة أحالتهم على موروث الرقص التونسي. وأعضاء فرقة العيساوية تجرأوا على إزاحة هالة القداسة عن الشيخ وهي شخصية صوفية حاضرة في المخيال الشعبي التونسي، فحوّلوها إلى موضوع هزلي يظهر في كلمات الأغنيات التي صاحبت العرض.
وارتدى أعضاء عيساوية البلوط لباسا أقرب إلى لباس المهرّجين في السرك: طرابيش ذات ألوان وأحجام مختلفة، جُبة وأزياء بأكمام واسعة وأحذية طويلة، كما لبس بعضهم لحى من الصوف.