متحف بيروت.. في القلب تراث لبنان وعلى الجدران ندوب الحرب الأهلية

لا يعتبر عشاق المتحف الوطني ببيروت مبنى المتحف رمزا لحفظ تراث البلاد فحسب، بل يرونه رمزا لصمودها في حرب أهلية مرت على اندلاعها 50 عاما، حيث امتد خط المواجهة بين المسلحين والخصوم بجوار المتحف ليفصل شرق بيروت عن غربها. وافتتح جناح جديد بالمتحف أثناء أحدث حرب في لبنان والتي اندلعت في العام الماضي بين إسرائيل وجماعة حزب الله اللبنانية.
بيروت - عندما اندلعت الحرب الأهلية قبل 50 عاما، تحول المتحف الوطني اللبناني إلى بؤرة قتال ضمن خط مواجهة دموية في بيروت حيث تحصن مسلحون وسط الآثار القديمة، وأطلقوا النيران لاقتناص الخصوم وسط أعمال الفسيفساء التاريخية.
والآن، يتجول الطلاب والزوار بين القطع الأثرية، وبعضها ما زال مسودا من أثر دخان النيران التي كان يستدفئ بها المقاتلون. كما أصبح بوسع الزوار الدخول إلى جناح جديد افتُتح أثناء أحدث حرب في لبنان والتي اندلعت في العام الماضي حين تبادلت إسرائيل وجماعة حزب الله اللبنانية إطلاق النيران بكثافة.
ولا يرى عشاق المتحف في مبناه رمزا لحفظ تراث البلاد فحسب، بل يرونه رمزا لصمودها.
الطلاب والزوار يتجولون بين القطع الأثرية، وبعضها ما زال مسودا من أثر دخان النيران التي كان يستدفئ بها المقاتلون
قال وزير الثقافة اللبناني، غسان سلامة، لرويترز في القاعة الرئيسية للمتحف “أتمنى أن يعرف هؤلاء الشباب الذين أراهم بالمتحف ماذا حصل به، عام 1975 لأن ما حصل بالمتحف أمر جدير بالاحترام“.
وأضاف “هناك حق بالنسيان. للبنانيين الذين يودون أن ينسوا الحرب الأهلية، هذا حقهم لكن هناك أيضا واجب بالتذكر، واجب بالتذكر لكي لا نعيد الكرة مرة وثانية وثالثة ورابعة“.
واندلعت الحرب في نفس هذا الشهر وبالتحديد في يوم 13 أبريل 1975، بعد أن أطلق مسلحون مسيحيون النار على حافلة تقل مقاتلين فلسطينيين في بيروت، على بُعد بضعة كيلومترات فحسب من المتحف الذي افتتح عام 1924.
وامتد خط المواجهة بجوار المتحف ليفصل شرق بيروت عن غربها. واتخذ مسلحون من المتحف ثكنة عسكرية، ونقل مدير الآثار آنذاك، موريس شهاب، القطع الأثرية الصغيرة إلى خزائن البنك المركزي اللبناني، وطمر القطع الأكبر بخرسانة مسلحة لحمايتها من القصف.
وقال سلامة إن أربع قطع أثرية رئيسية على الأقل تضررت. ولا تزال هذه القطع معروضة في المتحف اليوم، ومن بين هذه الأضرار ثقب بحجم كرة قدم في فسيفساء تمتد من الأرض إلى السقف تعود للقرن الخامس الميلادي، كان قناصة يستخدمونه في استهداف مسلحين منافسين قرب الجبهة.
واستمرت الحرب 15 عاما، وأودت بحياة أكثر من 100 ألف شخص وشردت مئات الآلاف. وفي منتصف الحرب، غزت القوات الإسرائيلية بيروت، وتأسست جماعة حزب الله في العام نفسه، متعهدة بطرد إسرائيل.
في عام 2023، اندلعت حرب جديدة بين العدوين اللدودين، حين أطلق حزب الله صواريخ على إسرائيل، فصعدت إسرائيل حملتها الجوية والبرية، مما أدى إلى إضعاف قوة حزب الله بشدة بحلول نهاية عام 2024.
وحتى في وسط هذا الصراع، عمل المتحف على افتتاح جناح جديد للمعارض الدورية.
وقال سركيس خوري، المدير العام للمديرية العامة للآثار في لبنان، إنه مع بدء أعمال البناء، اكتشف علماء الآثار عشرات القطع الأثرية التي دفنها شهاب في الفناء الخلفي للمتحف لحمايتها.
كان خوري يتحدث إلى رويترز وخلفه جدار خارجي ما زال يحمل ندوب الحرب الأهلية وقررت سلطات المتحف أن تتركه كما هو دليلا على صمود المتحف.
وقال خوري “الأشياء التي تركناها مبينة (كما هي) هي درس للمستقبل، لأننا بلد يجب أن يكون بلد السلام، بلد تعايش، لأن هذا تاريخنا… المتحف لا يزال صامدا حتى الآن وحتى وقت انفجار بيروت تضرر المتحف وتمت إعادة ترميمه، فنحن في لبنان لدينا مشاكل ونتخطاها فهذا الوجه مليء بالجروح والتجاعيد، لكنه وجه جميل للبنان.“
والإبقاء على الجدار كما هو يعد مثالا نادرا على الحفاظ على ذاكرة لبنان، لأن هناك معالم أخرى للحرب الأهلية ما زالت مهجورة أو طمستها أعمال البناء السريع لمبان شاهقة بعد انتهاء الصراع.
ووافقت إدارة ما بعد الحرب على عفو عام عن جميع الجرائم السياسية التي ارتكبت أثناء الحرب. وتختار معظم المناهج الدراسية عدم تدريس تاريخ الحرب.
وحين سئل وزير الثقافة عن احتمال أن يقيم لبنان ذات يوم متحفا مخصصا فقط للحرب الأهلية، أجاب سلامة بالنفي، قائلا “نحن لم ننتج خلال الحرب الأهلية عمارا.. نحن أنتجنا دمارا“.
لكنه ما زال يحدوه الأمل في مستقبل مشرق لبلاده.
وقال “أُعلنت وفاة هذا البلد العشرات، بل المئات من المرات، لكنه تمكن بأشكال مختلفة… بأشكال سياسية وقانونية مختلفة أن يصمد، هذا الجزء من شرق المتوسط بقي قائما بتميزه وبمشاكله وأيضا بإبداعه، فهذه الاستمرارية مثيرة للانتباه… تتعدل أشكال الوجود السياسي لهذه المنطقة، لكن لا تنتهي، ولا تنقطع“.
وشهد لبنان خلال الفترة الممتدة من عام 1975 إلى عام 1990 حربًا أهلية طاحنة تركت آثارًا عميقة على النسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلاد. كانت هذه الحرب نتيجة لتراكم التناقضات الطائفية والمذهبية والسياسية، وتدخل قوى إقليمية ودولية، مما أدى إلى صراع دموي طويل الأمد. لقد حملت الحرب في طياتها العديد من المشاهد المأساوية، حيث تسبب في فقدان الآلاف من الأرواح وفي تهجير الملايين من السكان، مما أثر على التركيبة السكانية للبلاد بشكل كبير. كما تحولت المدن إلى ساحات للمعارك اليومية، بينما تآكلت الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، مما ترك المواطنين في حالة من الفوضى والحرمان. في خضم هذا الصراع، تم تشكيل مقاومات متعددة كل واحدة منها تعكس وجهة نظر معينة، مما زاد من تعقيد الأزمة وإطالة أمد الصراع.
وفي حديثها عن أسبوع “خمسينية” الحرب اللبنانية، قالت الكاتبة والصحافية لوسي برسخيان: “داخل المتحف الوطني في بيروت، وسط مقتنيات التاريخ التي خلفتها اثنتا عشرة حضارة مرت على لبنان، تظهر فجوة في لوحة فسيفسائية عزلت مع مجموعة قطع أثرية أخرى بغرفة لا يسمح باجتياز عتبتها. الفجوة هي من مخلفات الأحداث التي رافقت بداية الحرب اللبنانية الطويلة منذ العام 1975، والتي تبقي الجرح مفتوحاً على مآسيَ خط تماس نشأ عند ‘نقطة المتحف’. كان يمكن لهذه المآسي أن تمحو كل أثر للحضارة اللبنانية المختزنة في هذه المنطقة، وتختزل تاريخها بمرحلة تقطع شرايين الوطن بين شرقية وغربية، لولا أن المتحف الوطني نفض عنه غبار الحرب الأليمة، واستعاد إشراقة صرح رسّخ ثقافة الحياة التي تغلبت على الحروب والموت.“
وتابعت “تغيب ملامح الحرب الأهلية التي استمرت خمس عشرة سنة عن منطقة المتحف. والذكرى الخمسون لأحداثها الأليمة، تتغلب عليها الذكرى الـ150 لنشأة الجامعة اليسوعية في المنطقة. على الأعمدة الممتدة من الصرح الجامعي المقابل للمتحف، وحتى المستديرة المجاورة له ارتفعت الصور. لا ليست صور الشهداء الذين قضوا في هذه المنطقة. إنما هي لتكريم خريجي الجامعة اليسوعية الذين لمعوا في الحياة العامة والخاصة بإنجازاتهم الإنسانية، فكانوا رواداً في مختلف المجالات التي برعوا فيها.“