متاهة مفهوم "العدو" بين الإرهاب ومكافحيه

لندن - يقول الأميركيان ديفيد فروم وريتشارد بيرل وهما من المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري “كلماتنا بالتأكيد لن تكون مقنعة، وهذا ليس فقط لأن السكان في الشرق الأوسط لا يصدّقون ما نقوله، لكننا أيضا نحن وهم، لا نتفق على معنى الكلمات التي تشكل قاموسنا الأخلاقي، فالأميركيون وأهل الشرق الأوسط قد يوافقون، مثلا، على أن من الخطأ قتل إنسان بريء، لكننا لا نتفق على من هو البريء ومن هو ليس بريئا”.
تلقف قادة ومنظرو الإسلام السياسي هذا الارتباك المعرفي الحاصل في تحديد مفهوم الإرهاب، وكذلك هيمنة تعريفات القوى الفاعلة التي لا تخلو بعضها من غلو وتحامل على الثقافة الإسلامية، وراحوا يلعبون نفس اللعبة الضبابية المتحركة في تعريف كلمة “العدو” في فقههم واجتهاداتهم المختلفة والمتباينة بتباين المصالح والمواقع أو تقاربها وانصهارها لدى قادة هذه الجماعات.
هكذا استفاد الإسلام السياسي من واقع استطاع من خلاله أن يحدث إرباكا مفهوميا ويفتح ثغرات لتمرير مشروعه الإرهابي. أهم الحقائق التي انطوى عليها هذا الواقع، وجعلت منها الجماعات التكفيرية الشجرة التي تحجب الغابة هي أن العالم كله يلتقي، أو يكاد، في إدانة الإرهاب ويدرجه في خانة العنف المدان الذي تمنعه قوانينه وتعاقب عليه، لكنه لا يمكن له أن يدعي بأنه يلتقي في تحديد مفهوم الإرهاب بشكل جامع مانع، يمكن له من خلاله أن يشير إلى الجاني كما يشير إلى الضحية بإصبع صريحة ودون تردد.
الذي زاد الطين بلة وأوقع في المزيد من الالتباس هو أن الإرهاب ليس مصطلحا قانونيا يتم الاتفاق على مدلوله وفرض عقوبات واضحة بناء عليه، كما أنه لم يعد محصورا في حدود الدولة، الأمر الذي زاد من تعقيدات التعامل معه ونسبية بعض مظاهره، فالفعل الذي يقع في ظل المواجهة العسكرية ويعد عملا عسكريا مشروعا، لا يكون كذلك في حال السلم، وهنا دخل في تحديد المفهوم اعتبار الظروف التي يقع فيها.
طبيعة المنافسة لا تنحصر بين “الجديد” و“القديم”، بل إن المنافسة بين القاعدة وداعش تتجاوز ذلك بكثير وتصل إلى عصب الأيديولوجيا القتالية والاستراتيجية السياسية والتكتيكات
ومثل أن محاربة الإرهاب تضيق وتتوسع وتتنقل أيضا بالنسبة للدول الكبرى، وذلك بحسب تعريفاتها للإرهاب، ومدى اقترابه أو ابتعاده من المساس بمصالحها، فإن تعريفات “العدو” تضيق أيضا وتتوسع وتتنقل بالنسبة للجماعات الإرهابية حسب نفس درجة مقياس المصالح الذي تعتمده بعض الدول، ودون التشكيك طبعا في جدية بعضها، خصوصا تلك المتضررة من الإرهاب أكثر من غيرها.
ومثلما أن مسألة الحماسة والجدية والالتزام بمحاربة التطرف والإرهاب تظهر وتتفاوت في سياسة دولة دون أخرى، فإن المنافسة في “استهداف العدو” تنحصر بين الجماعات الجهادية في العالم حاليا في تنظيم القاعدة، وهو الأقدم من حيث التشكيل، وتنظيم الدولة الإسلامية وهو الأحدث، والذي نشأ من بطن تنظيم القاعدة عام 2014.
لكن طبيعة المنافسة لا تنحصر بين “الجديد” و“القديم”، بل إن المنافسة بين القاعدة وداعش تتجاوز ذلك بكثير وتصل إلى عصب الأيديولوجيا القتالية والاستراتيجية السياسية والتكتيكات.
فمن الناحية الأيديولوجية يتبنى تنظيم الدولة الإسلامية مبدأ “محاربة العدو القريب” في حين يتبنى تنظيم القاعدة مبدأ “محاربة العدو البعيد”. وهذا يؤدي إلى اختلافات كثيـرة في الـرؤية وفي المستهـدفات المستقبلية.
وعلى صعيد الاستراتيجية السياسية يسعى تنظيم داعش إلى تأسيس دولة الخلافة الإسلامية في بلاد المسلمين وتوسيعها، في حين نشأ تنظيم القاعدة على الجهاد ضد “الصهاينة والصليبيين” ثم أعاد أيمن الظواهري تعريف العدو بتوسيع نطاقه ليشمل “الصفويين والعلمانيين”، كما أعاد حمزة بن لادن (الإبن الأصغر لمؤسس القاعدة) تعريف العدو من جديد في شهر مايو 2017 عبر رسالة صوتية ليشمل اليهود والأميركيين والأوروبيين “جراء ما يقترفونه من ظلم ضد المسلمين في أفغانستان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن والصومال”.
أما تنظيم الدولة الإسلامية فهو يوجه نيرانه وعملياته بصورة أساسية إلى الأنظمة التي يعرفها بأنها عميلة في الدول العربية والإسلامية، ويسعى إلى قلبها وإقامة إمارات أو ولايات إسلامية فيها تكون النواة لتأسيس دولة الخلافة الإسلامية. ومع ذلك فإن التشكيلات التابعة لـهذه “المفرزة الأمنية” التابعة للتنظيم، تقوم بعمليات في أماكن كثيرة خارج “دار الإسلام” انتقاما من الأوروبيين والأميركيين بسبب “حربهم على الجهاد في سوريا والعراق وغيرهما”.
وإذا بقينا دائما في هذه المقاربات المعرفية التي يتقابل فيها، ضمن ثنائية تناقضية وتفاعلية، تعريف الدول الكبرى للإرهاب ضد تعريف الجهاديين للعدو، فإن قوائم العدو الافتراضي لدى الجماعات التكفيرية، تشبه قوائم الدول الكبرى من ناحية إدراج جماعات أو حذفها، الأمر الذي يذكّر بالجدل الذي أثير حول إيران بعد الاتفاق النووي وتساؤل بعضهم إن كانت الولايات المتحدة ستحذف نظام طهران من قائمة الدول الداعمة والمصدرة للإرهاب.
وبناء على ما تقدم، هل يجوز لنا التحدث عن تعريفات متحركة وغير ثابتة لمفهوم الإرهاب أم أن الأمر يحتوي على خطوط حمراء لا يمكن اللعب بها ضمن خطط واستراتيجيات مكافحة الإرهاب، بعيدا عن الغوص في التعريفات اللغوية المضللة، بما أن الأمر قد حسم قانونيا وأمميا؟
كما أنه من الضروري الحفاظ على الثوابت في محاربة الإرهاب بعيدا عن الصفقات والمصالح السياسية الضيقة، ذلك أن مؤشرات عديدة تدل على أن الجماعات الإرهابية بفصائلها القديمة والحديثة، ماضية في “ثوابتها الإجرامية” فلم التراخي من الجهة المقابلة؟
التطورات الراهنة داخل بنية تنظيم القاعدة تشير إلى تحول إلى أساليب أكثر شراسة، بما يقترب من أساليب تنظيم داعش. وتشير الرسائل الأخيرة الصادرة عن أبي معاذ (حمزة بن لادن) إلى توجيهات لمقاتلي القاعدة بالتشدد في انتقامهم من “أعداء الجهاد باستخدام كل الأسلحة المتاحة والممكنة”. وقد وجه بن لادن الابن رسائله بوضوح ليعزز فكرة الجهاد ضد العدو البعيد خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا، ولم يرد في رسائله ذكر لدولة إسرائيل.