ما لم يحققه آبي أحمد بالحرب يسعى له بالمصالحة السياسية

تصفير أزمات إثيوبيا الداخلية مقدمة لإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية.
الأحد 2022/01/09
المصالحة السياسية أداة آبي أحمد لتحقيق أهدافه

قرار رئيس الوزراء الإثيوبي إطلاق سراح أبرز قيادات المعارضة فتح أمامه فرصة كبيرة لتحقيق مصالحة حقيقية في الداخل بعيدا عن خيار الحسم العسكري غير المضمون، وفي الخارج إعادة تصويب العلاقات المتوترة بسبب مواقفه التصعيدية في السابق.

تشير الخطوة التي اتخذتها الحكومة الإثيوبية بشأن الإفراج عن عدد من قيادات المعارضة المعتقلين والدعوة إلى مصالحة وطنية الجمعة، إلى تغيرات مهمة في تفكير رئيسها آبي أحمد، حيث ظل الرجل متمسكا بقمع المعارضة وحل الخلافات مع بعض الأقاليم بالآلة العسكرية، وظهرت معالم ذلك بوضوح في الحرب التي خاضها ضد إقليم تيغراي لأكثر من عام.

وتأتي الرغبة في السلام بعد حدوث توازن نسبي في معادلة القوة بين القوات الحكومية وجبهة تحرير تيغراي، ومحاولة استثمار هذا الموقف في الدفع نحو السلام على طريقة “لا غالب ولا مغلوب”، إذ أوقف التفوق العسكري الذي أحرزته الحكومة الأسابيع الماضية مؤشرات النصر الذي كادت أن تتبلور لصالح تيغراي بعد تحالفها مع الأورومو بما مكنها من التقدم نحو إقليمي أمهرة والعفر وتهديد العاصمة أديس أبابا.

حركت معادلة القوة الراهنة الاتجاه نحو السلام، وعالجت الخلل الفاضح الذي أحدثه تغول القوات الإثيوبية في إقليم تيغراي، فقد أسهم التوصل إلى صيغة شبه متعادلة في مقاييس القوة العسكرية في الدعوة إلى المصالحة من قبل أديس أبابا، وعدم ممانعة قوى المعارضة في التجاوب معها حتى الآن، لأنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تخمد نيران الحرب في دولة تتشكل من موزاييك سياسي وعرقي غاية في الخطوة.

التخلص من الكابوس

إطلاق سراح أبرز قيادات المعارضة بداية المصالحة
إطلاق سراح أبرز قيادات المعارضة خطوة تحسب لآبي أحمد من أجل المصالحة

تزيح الدعوة إلى المصالحة بكل ما تحمله من جدية هذه المرة عن كاهل بعض القوى الكبرى كابوسا حول مصير إثيوبيا، فالدول التي دخلت على خط الصراع تهديدا أو دعوة للسلام لم تكن مرتاحة للتطورات الصادمة التي بلغتها الحرب، حيث هددت وحدة الدولة الإثيوبية وكادت أن تقودها إلى التفتت، ما يمثل خطرا داهما على المنطقة يؤثر على مصالح قوى إقليمية ودولية فاعلة فيها.

يسعى آبي أحمد لترميم التصدعات التي ضربت علاقته الخارجية منذ دخوله الحرب ضد تيغراي، وتعويض خسائره السياسية الباهظة بعد أن وضعته الانتهاكات التي ارتكبتها قواته في خانة ضيقة (مجرم حرب)، ودفعت جهات دولية إلى المطالبة بسحب جائزة نوبل للسلام التي منحت له بعد توليه رئاسة الحكومة ونجاحه في توقيع اتفاقية سلام مع الجارة اللدود إريتريا.

يمكن أن يعيد السعي للمصالحة جانبا مهما مما فقده الرجل من بريق سياسي في الفترة الماضية، وينقذ إثيوبيا من الإنزلاق إلى حروب أهلية ممتدة وما يمكن أن تؤدي إليه من أشباح مخيفة قد يصعب حصرها في هذه الدولة التي تتداخل اجتماعيا وثقافيا وجغرافية مع عدد من دول الجوار، ولها ميراث سيء في الحروب الإقليمية.

وتعمدت الدعوة إلى الحوار عدم اقتصارها على إقليم تيغراي وتصل إلى جميع الأقاليم الإثيوبية للإيحاء بأن هناك مرحلة جديدة في البلاد تهدف إلى جمع الشمل، الأمر الذي كشفه وضع أسماء قيادات كبيرة في المعارضة، مثل الإعلامي المنحدر من أوروميا جوهر محمد وزعيم تيغراي سبحات نيغا، تم أو سيتم الإفراج عنها قريبا، في إشارة إلى أن المصالحة ليس لها حدود، وأن فترة الحكم الثانية التي بدأتها حكومة آبي أحمد قبل بضعة أشهر يمكن أن تختلف عن سابقتها.

تيقنت الحكومة الإثيوبية أن توتر علاقتها مع عدد من الأقاليم يقود إلى اختلالات كبيرة في هياكل الدولة الحديثة التي جرى تشييدها في العقود الثلاثة الماضية، ويفضي إلى مزيد من فتح الجراح الداخلية وتصاعد حدة المطالب بتقرير المصير، وقد أثبتت تجربة المعارك السياسية والعسكرية مع إقليم تيغراي أن الخطر لن يقتصر على ذلك.

الصورة الخارجية

أمام آبي أحمد فرصة ليعقد مصالحة سياسية وعسكرية حقيقية مع القوى المعارضة وينقذ إثيوبيا من الانهيار كي يعبر بها إلى بر الأمان، ما يتطلب خطوات عملية تعيد بناء الثقة بين جميع الأطراف والتخلي عن المناورات
أمام آبي أحمد فرصة ليعقد مصالحة سياسية وعسكرية حقيقية مع القوى المعارضة وينقذ إثيوبيا من الانهيار كي يعبر بها إلى بر الأمان، ما يتطلب خطوات عملية تعيد بناء الثقة بين جميع الأطراف والتخلي عن المناورات

أثر انخراط الحكومة في مناوشات داخلية على صورتها الخارجية وتسبب في تدهور علاقاتها مع قوى كبرى على غرار الولايات المتحدة التي أبدت خشونة سياسية واضحة في التعامل مع أديس أبابا وفرضت عليها عقوبات اقتصادية، وأخذت تعيد النظر في رهاناتها عليها كقاعدة أساسية لها في منطقة القرن الأفريقي.

انعكست التوترات على خطط إثيوبيا التنموية، وبدأ العمل في مشروع سد النهضة يسير بصورة بطيئة ويواجه عثرات فنية ومادية، وتتراجع التصورات الإيجابية في قدرته على تلبية احتياجات الدولة في توليد الكهرباء، واهتزاز شبكة الأمان السياسية التي اعتمدت عليها أديس أبابا لدعم موقفها في مواجهة كل من مصر والسودان.

علاوة على أن التركيز على حرب تيغراي أرخى بظلال سلبية على قدرة إثيوبيا في الحفاظ على ما استولت عليه من أراض سودانية في منطقة الفشقة، حيث استردت الخرطوم نحو 90 في المئة منها، وساءت صورة أديس أبابا دوليا جراء هروب عشرات الآلاف من نيران الحرب ولجوئهم إلى الاحتماء بالسودان.

كلفت تداعيات الحرب إثيوبيا أثمانا عسكرية وسياسية واقتصادية كبيرة، وأضعفت قدرتها على توسيع نفوذها في المنطقة، وهو ما فرض على رئيس حكومتها ضرورة إعادة النظر في خطابه السياسي الداخلي بصورة ستكون لها ارتدادات خارجية على المدى القريب، لأن أديس أبابا لم تفقد تماما جميع أوراقها السياسية وتمكنت من الحفاظ على الحد الأدنى من التماسك مع بعض القوى، وتطوير علاقاتها مع قوى أخرى.

إذا لم تكن تحركات المصالحة جادة وتتخطى فكرة الانحناءات التقليدية عند العواصف سيقضي آبي أحمد على الفرصة السانحة لتحسين صورته

تأكد آبي أحمد أن ما لم يستطع تحقيقه بالاشتباك يمكن أن يسعى له بالمصالحة السياسية، وهو العنوان العريض الذي سيكون راشدا له في الفترة المقبلة إذا استطاع أن يفتح صفحة جديدة مع معارضيه بشكل يمكنه من تجاوز المأزق الذي دخله باللجوء إلى خيار التصعيد على جبهات عديدة في الداخل.

وتأكد أيضا أن منهج التصعيد مع الخارج لن يؤدي إلى تثبيت أركان حكومته وهي تواجه تحديات في الداخل، فعلى مدار عامين انخرط في خلافات مع مصر بحجة تنفيذ مشروع سد النهضة بلا تنازلات، واختلق ذرائع متباينة معها كي يصل بالسد إلى بر الأمان بالطريقة التي يخطط لها، ودخل مع الخرطوم في تجاذبات سياسية وعسكرية لم تسعفه للحفاظ على ما حققته بلاده من تطورات إيجابية مع النظام السوداني السابق.

أمام آبي أحمد فرصة ليعقد مصالحة سياسية وعسكرية حقيقية مع القوى المعارضة وينقذ إثيوبيا من الانهيار كي يعبر بها إلى بر الأمان، ما يتطلب خطوات عملية تعيد بناء الثقة بين جميع الأطراف والتخلي عن المناورات التي اعتمد عليها الفترة الماضية، بالتالي التأسيس لدولة جديدة وفقا لقوام سياسي يوفر حماية لحقوق جميع الأقاليم وينهي الاحتقانات التي ظهرت معالمها ووضعت الدولة على حافة الإنهيار.

إذا لم تكن تحركات المصالحة جادة ومتينة وصامدة وتتخطى فكرة الانحناءات التقليدية عند العواصف سيقضي على الفرصة السانحة لتحسين صورته السياسية ويفقد الأمل الذي تجدد في منع إثيوبيا من الإنهيار، لأن عدم استثمار الدعوة للمصالحة أو تحويلها إلى أداة لتحقيق أغراض سياسية ضيقة سوف ينهي ظاهرة آبي أحمد في المنطقة.

يبدو أن الاتجاه إلى المصالحة يرمي إلى تحقيق مصالح خارجية، فبدون استقرار هياكل الدولة وتوافر الحد الجيد لتماسكها لن تتمكن من مواجهة التحديات التي تحيط بها في الإقليم، وستكون مضطرة إلى تقديم تنازلات في ملف سد النهضة ومع السودان، وتتحطم أهدافها في قيادة المنطقة، وما يمنح المصالحة بعدا حيويا تأكد آبي أحمد أن طموحاته الخارجية لن تتحقق ما لم يكن الداخل على درجة جيدة من الاستقرار.

4