ما حققته معركة حلب لا يتجاوز عودة الأمل في معارضة سورية موحدة

أنجزت المعارضة السورية تحوّلا نوعيا في أدائها من خلال كسر الطوق العسكري والحصار الخانق الذي فرضه النظام السوري وحلفاؤه على مساحة واسعة من حلب لإخضاع المدنيين والعسكريين المعارضين الذين يسيطرون على تلك المنطقة وإجبارهم على الاستسلام، ولأول مرة تتوحد كل فصائل المعارضة السورية في معركة واحدة، فصائل معتدلة تابعة للجيش الحر وأخرى إسلامية متشددة، حيث استطاعت بوقت قياسي فك الحصار، بل ومحاصرة قوات النظام في القسم الآخر من المدينة.
معركة استثنائية
هذه التطورات والقدرات لم تكن ضمن حسابات النظام السوري ولا روسيا والإيرانيين الذين يدعمون الأسد في حصار حلب، كما كانت مفاجأة للسوريين المعارضين أنفسهم، بعد أن يأسوا من توحد فصائل المعارضة المسلحة، وقلبت هذه التطورات التي لم تدم سوى عدة أيام الكثير من الموازين، وأعادت خلط الأوراق الدولية والإقليمية، ودعت الكثيرين إلى تحليل نتائجها المتوقعة.
مطلع الشهر الجاري، أعلن النظام السوري وروسيا على التوازي أنهما قررا هزيمة المعارضة السورية في حلب، وتقدّمت قوات النظام على الأرض، وشاركها عدة آلاف من مقاتلي حزب الله اللبناني وقوات أفغانية تٌشرف عليها إيران، وقطعت آخر الطرق الواصلة لمناطق المعارضة وحاصرتها، كما قامت روسيا بالمئات من الضربات الجوية العنيفة، دمّرت خلالها مشافي ومستوصفات ومستودعات أغذية ومحطات مياه وأسواق، تماما كما فعلت في العاصمة الشيشانية غروزني التي دمرتها وسوّتها بالأرض فوق رؤوس سكانها لتسيطر عليها.
على غير المتوقع، قررت جميع فصائل المعارضة الموجودة في المدينة توحيد نفسها في غرفة عمليات مشتركة، واندمج قادة المعارضة معا بعيدا عن الخلافات الشخصية والسياسية والأيديولوجية، وأعلنوا عن معركة لوقف تقدّم قوات النظام وحلفائه، ونجحوا في تحقيق ذلك بيوم واحد، ثم أعلنوا عن معركة لفك الحصار، ونجحوا فيها بيومين وحاصروا قوات النظام، ثم أعلنوا أخيرا عن معركة استراتيجية ثالثة هدفها السيطرة على كل مدينة حلب التي تُعتبر ثاني أكبر مدينة في سوريا.
معركة حلب أعادت للمعارضة الثقة بقدراتها وأعادت للشارع بعض التفاؤل بالقدرات الذاتية للسوريين
حدث شيء استثنائي في حلب بين المعارضة المسلّحة، إذ استطاعت خلال أيام توحيد نفسها، ووضع خطة عسكرية فعّالة مبتكرة، وتجميع كل قواها لخوض معركة منظمة دقيقة، رافقتها بيانات مسؤولة تتعلق بأمن المدنيين، وتعهدت هذه الفصائل بعدم المس بالمدنيين المقيمين في المناطق الموالية للنظام ومعاملتهم معاملة إنسانية، كما رافقتها بيانات عسكرية تحدد بدقة المواقع التي سيتم استهدافها والهجوم عليها لإفساح المجال للمدنيين للخروج منها قبل بدء المعارك، ما أدى إلى تخفيف الخسائر البشريـة بين المدنيـين إلى حد تكــاد تكـون فيه شبه معدومة.
وفي هذا السياق، تحدّث المراقبون عن احتمالين حيث قال الخبير العسكري سالم جريح لـ”العرب” إن “انضباط المقاتلين ودقة وسرعة الهجمات تدفع إلى ترجيح إمكانيتين؛ الأولى هي أن تكون فصائل المعارضة المسلحة قد أدركت أنها باتت مكشوفة إقليمياً ودوليا بصورة كاملة بلا سند خارجي، فقررت عن وعي ومسؤولية الاعتماد على نفسها حتى لا تفنى، وقررت عن وعي نسيان أو تأجيل خلافاتها وانقساماتها الأيديولوجية والعسكرية، فتحدت وسلّمت قيادة المعركة للضباط الخبراء المتطوعين في فصائلها المتعددة ليقوموا بوضع خطط محترفة، ووحدت قيادتها وجمعت سلاحها للمعركة الواحدة، والثانية هي أن الولايات المتحدة أوعزت إلى الدول الإقليمية الداعمة لتُجبر كل الفصائل المسلحة التي تدعمها على العمل على معركة واحدة ساعد الأميركيون في وضع ملامحها العامة”.
ميزان القوى السورية
صعدت عمليات النظام السوري وروسيا من حدة التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، وحذّر وزير الخارجية الأميركي جون كيري من أنه إذا اتّضح أن ما تقوم به روسيا في حلب هو “خدعة” فإنها ستعصف بالتعاون بين موسكو وواشنطن، كما طلب الرئيس الأميركي باراك أوباما من نظيره الروسي فلاديمير بوتين أن تتوقف الهجمات على المعارضة، وشكك بنوايا بوتين في ما تقوم به القوات الروسية في حلب، في حين حثت وزارة الدفـاع الأميركيـة على وقف إطلاق النار.
حذر جون كيري من أنه إذا اتضح أن ما تقوم به روسيا في حلب هو خدعة فإنها ستعصف بالتعاون بين البلدين
أدركت الإدارة الأميركية أن حصار حلب سيكون له تأثير كبير على واقع ميزان القوى في سوريا، بل وفي المنطقة عموما، خاصة وأن غالبية الفصائل المقاتلة في المدينة هي جماعات مستقلة وليست جهادية، وحدها جبهة فتح الشام (النصرة سابقا) هي الوحيدة المُصنّفة كذلك من بين 32 فصيلا عسكريا موجودا في حلب وشارك في معارك فك الحصار عنها.
وقالت مصادر دبلوماسية فرنسية لـ”العرب” إن الولايات المتحدة “كانت تخشى تشديد الخناق على المدينة حتى لا تتحول كل الفصائل المستقلة للتحالف مع الجماعات الجهادية، لأن تدمير المعارضة غير الجهادية في حلب سيعني مشكلة استراتيجية حقيقية للولايات المتحدة، حيث تعتمد الخطة الأميركية بعيدة المدى على الاعتماد على هذه المعارضة غير الجهادية لتدمير تنظيم الدولة الإسلامية، وانهزامها يعني بالتالي عدم قدرة واشنطن على تنفيذ استراتيجيتها بعيدة المدى”.
الاستراتيجية الروسية في سوريا واضحة وصريحة في دعمها بكل الوسائل للنظام السوري ورأسه، وبالمقابل، فإن الاستراتيجية الأميركية تُعاني حالة من الغموض والتناقض، إلى درجة يصف فيها الإعلام الأميركي صمت الولايات المتحدة وسلبيتها بـ”المثير للصدمة”، ويعتبر عدم مواجهة الإدارة الأميركية لجرائم الحرب التي يرتكبها النظام السوري بأنه “رضوخ”، ويشير إلى “ضياع في البوصلة الأميركية”.
لا شك أن لروسيا مصالحها في سوريا، وكذلك للولايات المتحدة مصالح مختلفة، والخلاف بين الطرفين يدور حول من يدير العملية في المرحلة الانتقالية، ورغم كل التنسيق الأميركي – الروسي، وهو كبير، إلا أن الروس يريدون دفع الأميركيين إلى الاقتناع بأن مكافحة الإرهاب يجب أن تكون على رأس الأجندة، وهذا يعني تحييد النظام السوري القائم في المرحلة الحالية، فيما تؤكد الرؤية الأميركية غير ذلك، وتعتبر أن مسألة مكافحة الإرهاب والتعاون الدولي أمر مطلوب ومهم، لكن لن يجدي إن لم يتحقق الانتقال السياسي في سوريا أولا.
هنا بالذات يأتي سبب حصار حلب، ومحاولة النظام وروسيا وإيران القضاء على المعارضة المسلحة فيها من خلال تدميرها كليا، وكذلك سبب توحّد المعارضة وتوفير السلاح لها لخوض معركة ضارية تمنع حدوث ذلك.
تفاؤل بعيد
بالنظر إلى طبيعة الصراع على مدينة حلب، وتداعياته المتعلقة بالصراع في سوريا كلها، يمكن الجزم بأن معركة حلب لن تحسم مصير النظام السوري، أي أنها ستبقى بسقف محدود، كما أنها لن تُحسم هي بذاتها، وستبقى كرا وفرا لوقت طويل، لتبقى الأوضاع الميدانية في سوريا على مبدأ (لا غالب ولا مغلوب)، لكن يمكن تصنيفها على أنها درس أميركي لروسيا التي تحاول أن تتلاعب على الاتفاقيات وتتذاكى على وزارة الدفاع الأميركية، التي انتقل الملف السوري من الخارجية إليها منذ ما قبل مطلع العام الحالي، وتريد الآن توجيه رسالة غير مباشرة بأنها هي التي تتحكم بالملـف السـوري، وأن على روسيا أن تضبط إيقاعها على هذا الأساس، لا أن تلعب خارج هذا الإطار.
لا يمكن تحييد تركيا عما يجري في حلب، فهي بالنسبة لها أمر استراتيجي، وطالما دعمت فصائل عسكرية معارضة في المدينة لتضمن عدم سقوطها بيد النظام والروس، وفي الغالب لن يتأثر موقف تركيا من حلب بالتقارب التركي – الروسي الذي عاد استراتيجيا.
وتأتي معركة حلب لتفيد تركيا التي تدعم حتى اللحظة ثلاثة من أهم وأقوى الفصائل في المدينة، والتي يقوم على ظهرها العبء الأكبر في الحصار على المدينة، وذلك أيضا رسالة استباقية غير مباشرة لروسيا قبيل اجتماع الرئيس التركي رجب طيب أردغان بالرئيس الروسي بوتين، بأنه سيبقى لتركيا تأثير إقليمي هام لا يمكن أن تتنازل عنه، فيما يربط بعض المعارضين السوريين معارك حلب والدعم الدولي الكبير للطرفين، بالتحضير للجولة المقبلة من المفاوضات السورية-السورية المتوقع أن تُستأنف نهاية أغسطس الجاري، وهو رسالة للروس بأن المعارضة السوريـة مـازالـت رقما صعبا لا يمكن تجاوزه.
إعلامي سوري