ما بعد التآكل الاقتصادي في ليبيا قد يكون انفجارا شعبيا

التعافي ليس حلا تقنيا بل سياسي.
الجمعة 2025/04/25
النفط وحده لا يكفي

بينما يتسارع تفشي الفساد، وتفقد العملة الليبية ما تبقى من قيمتها، تتآكل ثقة المواطنين بقدرة الدولة على إدارة شؤونهم. ومع غياب أي إرادة سياسية حقيقية للإصلاح، لم تعد الأزمة مجرد سلسلة من المؤشرات الاقتصادية المقلقة، بل أصبحت مقدمة لتحولات اجتماعية كبرى.

طرابلس - لم يعد الانهيار الاقتصادي في ليبيا مجرد أزمة مالية، بل بات مقدمات لانفجار شعبي محتمل. فمع تفكك المؤسسات، وتفشي الفساد، وتآكل قيمة العملة، يتآكل ما تبقى من ثقة المواطنين بالدولة. ومع غياب أيّ أفق للإصلاح، لم يعد الغضب الشعبي سؤالا عن الزمن، بل عن الشكل والمآل.

وما بدا في السابق توازنا هشا، بفضل عائدات النفط الهشة، وميزان المدفوعات الأجنبي الهش، أصبح الآن في حالة تدهور واضح. ولم تعد الأرقام المالية قابلة للإنكار، ولم تعد العواقب بعيدة، وتبدد وهم الاستقرار الاقتصادي.

ولأشهر، حذّر الاقتصاديون والمحللون من هذا المسار. ولم تكن توقعاتهم مبنية على نماذج مجردة، بل على ملاحظات يومية: ارتفاع التضخم، وتفاقم عجز الموازنة، واختفاء الرقابة العامة.

وحذر مصرف ليبيا المركزي، الذي لطالما تحفّظ، في بيان نادر وعلني عام 2024، من أن حكومة الوحدة الوطنية أنفقت أكثر من 109 مليارات دينار ليبي، بينما تراكمت على الحكومة الموازية في الشرق أكثر من تسعة وأربعين مليارا من الالتزامات خارج الموازنة.

ويقول عماد الدين بادي، زميل أول غير مقيم في برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي، إن أيّا من الرقمين لا يعكس تنسيقا أو ضبطا للنفس، بل يعكس فقط تصرفات مسؤولين إما جاهلين أو غير مبالين بعواقب الإنفاق غير المنضبط.

الفوضى المالية

إلى جانب هذه التحذيرات، عدّل مصرف ليبيا المركزي سعر الصرف الرسمي، رافعا إياه إلى 5.48 دينار ليبي للدولار، مع الإبقاء على عمولته الإضافية البالغة 15 في المئة على مشتريات العملات الأجنبية.

وباعتبارها تعديلا فنيا، تُعدّ هذه الخطوة حلا مؤقتا، في محاولة لاستيعاب التجاوزات السياسية في ظل انكماش المساحة النقدية. وهي تُؤكد حقيقة أعمق: لم تعد المؤسسات المالية الليبية تُوجّه الاقتصاد، بل تستعد لمواجهة تفككه.

عماد الدين بادي: ليبيا ليست محكومة بالفشل الاقتصادي لكن مسارها الحالي غير مستدام
عماد الدين بادي: ليبيا ليست محكومة بالفشل الاقتصادي لكن مسارها الحالي غير مستدام

وظاهريا، لا تزال ليبيا تعمل. النفط، على الأقل عمليا، لا يزال يُصدّر. الرواتب، وإن كانت غالبا ما تتأخر، تُودع في نهاية المطاف في حسابات موظفي القطاع العام المتضخمين في البلاد. لكن تحت السطح، يتفكك الاقتصاد.

وارتفع سعر الصرف في السوق السوداء إلى 7.8 دينار ليبي للدولار خلال ثمانٍ وأربعين ساعة من قرار مصرف ليبيا المركزي، وهو تصويتٌ مبررٌ بسحب الثقة من الجهات المسؤولة عن الشؤون المالية والنقدية في ليبيا.

وأفرغت المؤسسات التي كانت تُرسّخ استقرار النظام – من خلال عمليات تدقيق الموازنة، وتدقيق دورة الإيرادات، وتنظيم صرف العملات الأجنبية، أو الرقابة المركزية – من محتواها أو أُوقفت عن العمل. وما تبقى هو اقتصادٌ قائمٌ على الارتجال، والصفقات السرية، والمصالح السياسية.

وبالنظر إلى الماضي، تطوّرت بنية الفساد على مراحل. أولا، بدأ الصراع على ما كان الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي يحتكر تخصيصه: بنود الموازنة، وخطط الرواتب، وصفقات المشتريات.

ولاحقا، خاضت السلطات الانتقالية صراعاتٍ حول من يُحدّد تلك المخصصات للسيطرة على المؤسسات والموازنة. واليوم، بلغ هذا المنطق ذروته في تشويهٍ كاملٍ لعملية التخصيص نفسها. ولم تعد الأزمة الاقتصادية في ليبيا مجرد مسألة من يستفيد، بل أصبحت تتعلق بكيفية صنع المنافع.

نظام فساد مبتكر

على مدى السنوات القليلة الماضية، حلّت آلياتٌ مُبهمة ومُرتجلة محلّ قنوات الإيرادات الرسمية. وفي البداية، اعتُبرت هذه الحلول البديلة تسوية مقبولة وثمنا ضروريا للحفاظ على هدوء هشّ وتجنب تجدد الصراع. لكن ما كان يُعتبر تسوية مؤقتة تحوّل إلى نظامٍ شاملٍ للحوكمة الاقتصادية، نظامٍ تغيب فيه المساءلة وتُفرض فيه السلطة التقديرية دون رقابة.

وأصبحت صفقات مقايضة النفط الخام بالوقود، التي كانت تُعتبر في السابق حلا عمليا للتحايل، أمرا روتينيا، متجاوزة الموازنة الوطنية، وتُدار عبر قنواتٍ مُبهمة دون رقابة عامة.

وتتجاوز هذه الصفقات الموازنة الوطنية بشكل روتيني، وغالبا ما كان يتم التفاوض عليها من خلال وسطاء غير رسميين ذوي شبكات عابرة للحدود الوطنية، ودون أيّ تدقيق عام. وعلى الرغم من تعهد المؤسسة الوطنية للنفط بإنهاء عمليات مقايضة النفط الخام بالوقود بحلول مارس 2025، إلا أن هذه الصفقات تطغى عليها بالفعل ترتيباتٌ أكثر تعقيدا وغموضا، وهو أحدث تطورا في نظام الفساد المُبتكر في ليبيا.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة “أركينو”، وهي شركة مقرها بنغازي، أُنشئت في الأصل لأغراض البحث الجيولوجي، لكن أُعيد توظيفها الآن كوسيلة لتصدير النفط في الظل.

ووفقا لفريق خبراء الأمم المتحدة، تُدير "أركينو" جهات متحالفة مع قائد الجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، وتُمثل قناة مالية للمصالح العسكرية والسياسية في الشرق.

وفي عام 2024 وحده، صدّرت "أركينو" بشكل مستقل ما قيمته 460 مليون دولار تقريبا من النفط الخام بموجب صفقة وافقت عليها حكومة الوحدة الوطنية، في غياب أيّ عطاءات أو تدقيق أو نشر للشروط بشفافية.

وحتى عام 2025، لا تزال الشركة نشطة – حيث تواصل استيراد النفط الخام شهريا من المؤسسة الوطنية للنفط – وتقع في قلب نظام ناشئ يُعاد فيه توظيف الأصول المرتبطة بالدولة لتمويل الجهات السياسية الفاعلة خارج القنوات الرسمية.

دور الجماعات المسلحة

في غضون ذلك، رسّخت الجماعات المسلحة وجودها بشكل أعمق في البنية التحتية لاقتصاد الطاقة في ليبيا. وفي الشرق والغرب، رسخت الميليشيات وجودها في مرافق عامة مثل الشركة العامة للكهرباء في ليبيا، حيث تتأثر الخيارات التشغيلية بالنفوذ الكليبتوقراطي أكثر من المعايير المؤسسية.

◙ مؤسسة نفط وطنية مُسيّسة تُستغل بشكل متزايد لتحقيق مكاسب فئوية بدلا من حماية ثروة ليبيا النفطية
◙ مؤسسة نفط وطنية مُسيّسة تُستغل بشكل متزايد لتحقيق مكاسب فئوية بدلا من حماية ثروة ليبيا النفطية

وبين عامي 2022 و2024، تم تصدير ما يقدر بنحو 1.125 مليون طن من الديزل - المخصص نظريا لتوليد الطاقة – بشكل غير قانوني من ميناء بنغازي القديم.

وتم تسهيل هذه الصادرات من خلال طلبات توريد مبالغ فيها صادرة عن الشركة العامة للكهرباء، وعرقلة عمليات التدقيق، والتهديدات بالعنف ضد هيئات الرقابة.

وقد انجرفت المؤسسة الوطنية للنفط أيضا إلى هذه الدوامة. فقد سمحت عقود المحسوبية للشركات المرتبطة سياسيا بتأمين صفقات شراء وامتيازات تشغيلية، مما أدى إلى تآكل جدار الحماية بين إدارة الموارد الوطنية ورعاية النخبة.

وقد تسارعت هذه الديناميكية في أعقاب تعيين فرحات بن قدارة رئيسا للمؤسسة الوطنية للنفط عام 2022 في ترتيب لتقاسم السلطة بين حكومة الوحدة الوطنية والسلطات في الشرق. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة كانت تهدف إلى تخفيف التوترات التنفيذية، إلا أنها رسّخت النفوذ السياسي على عمليات المؤسسة.

ولم تعكس استقالة بن قدارة المفاجئة في أوائل عام 2025 هذا المسار. بل على العكس، تركت فترة ولايته بصمة دائمة: مؤسسة نفط وطنية مُسيّسة، تُستغل بشكل متزايد لتحقيق مكاسب فئوية بدلا من حماية ثروة ليبيا النفطية. ويتجلّى هذا التآكل في الحياد المؤسسي السياسة النقدية الليبية، حيث تتغلب الضرورات السياسية الآن على الإدارة الاقتصادية السليمة.

ويكمن جوهر هذا الخلل في التوسع غير المُقيّد في المعروض النقدي. وتشير تقديرات مستقلة إلى أن حجم النقد المتداول يتجاوز الآن 170 مليار دينار ليبي، وهو مستوى من السيولة يفوق بكثير الناتج الإنتاجي أو توليد الإيرادات. لكن القلق الأعمق لا يكمن في الكمية نفسها، بل في مقدار ما تم تصنيعه من العدم.

وأصبح إنشاء النقد الرقمي – أي ضخ الأموال في الاقتصاد دون أي إيرادات أو إنتاج مقابل – بمثابة ذريعة لنظام سياسي غير راغب في كبح الإنفاق أو فرض الانضباط.

وكانت النتيجة المتوقعة تآكلا متواصلا لقيمة الدينار الليبي، وارتفاعا حادا في التضخم، وتناميا في انعدام ثقة الجمهور في قدرة الدولة على إدارة مستقبلها المالي.

ومع انكماش الاحتياطيات الأجنبية وارتفاع أسعار السوق السوداء، لم يعد النظام النقدي الليبي قوة استقرار؛ بل أصبح انعكاسا لاختلاله. ونادرا ما تُوجَّه الثروة العامة إلى الخدمات أو التنمية الوطنية. بل يستَولى عليها، وتُوَرَّث عبر شبكات فاسدة، وتُختَزَل بشكل متزايد عبر عقود غير قابلة للتتبع وحسابات خارجية.

سبل الإصلاح

تتطلب معالجة هذا الانهيار أكثر من مجرد حِكمة مالية، بل تتطلب إعادة تنظيم سياسي. ويجب إعادة تركيز المؤسسات الاقتصادية الليبية لتصبح مراكزَ حوكمة وطنية، لا أدواتٍ للتمويل الفئوي.

ويجب حماية وإصلاح المؤسسات التي تُدير عائدات النفط، ويراقب صرفها، ويشرف على المشتريات، وفي الكثير من الحالات، إعادة بنائها، ليس فقط بقوانين جديدة، بل بحوافز وحماية جديدة.

ويجب أن تبدأ إستراتيجية إصلاحٍ ذات مصداقية بالإفصاح العام الإلزامي عن جميع عقود النفط، والنشر الفوري للإنفاق الحكومي، وحظر الترتيبات خارج الموازنة.

◙ معالجة هذا الانهيار تتطلب أكثر من مجرد حِكمة مالية بل تتطلب إعادة تنظيم سياسي ويجب إعادة تركيز المؤسسات الاقتصادية الليبية

ويجب تنظيم المشتريات من خلال أنظمة شفافة وتنافسية. كما يجب أن يُسترشد في توزيع الإيرادات بالشفافية والإنصاف والرقابة العامة، لا باللامركزية في حد ذاتها، ولا بالإدارة الخارجية.

ويجب أن يُعزز الإصلاح المؤسسات الوطنية مع ضمان وصول الأموال العامة إلى القطاعات والمجتمعات المستهدفة من خلال آلياتٍ خاضعةٍ للمساءلة وقائمةٍ على أسسٍ قانونية. وهذه ليست مُثلا تكنوقراطية فحسب، بل هي شروطٌ أساسيةٌ للتعافي.

كما يجب على الجهات الفاعلة الدولية – الجهات المانحة، والمؤسسات متعددة الأطراف، والمبعوثين الدبلوماسيين – التوقف عن التعامل مع الانهيار الاقتصادي الليبي على أنه مجرد نتيجةٍ ثانويةٍ للتشرذم السياسي.

ويؤكد عماد الدين بادي أن ليبيا ليست محكومة بالفشل الاقتصادي. لكن مسارها الحالي غير مستدام، ليس فقط لانخفاض سعر برميل النفط، بل لأن الإرادة السياسية للحكم بنزاهة قد تبخرت منذ زمن طويل. وسيتطلب التعافي المواجهة، لا التوافق. ويجب أن يبدأ باستعادة المؤسسات التي صُممت لخدمة الشعب، لا لخدمة المستفيدين من تراجعها.

وقد يُكسب التلاعب بأدوات تقنية، مثل سعر الصرف، بعض الوقت. لكن عندما تُستخدم هذه التعديلات لإدامة فساد النخبة بدلا من تصحيح الاختلالات الهيكلية، فإنها لا تُسهم في الاستقرار، بل تُثير الاستفزازات. وإذا استمر هذا الوضع، فلن تكون المرحلة التالية من أزمة ليبيا تآكلا هادئا، بل ثورة شعبية.

 

اقرأ أيضا:

      • ليبيا تنتظر مخرجات لجنة العشرين بعد نهاية شرعية المؤسسات الحاكمة

7