ما الذي يقلق روسيا في القوقاز؟

موسكو- استهلت روسيا العام الجديد بأحداث حافة خاصة لدى جيرانها حيث أرسلت قوات إلى كازاخستان لإخماد الاحتجاجات هناك، وشارك مسؤولون روس في محادثات مع الغرب بشأن أوكرانيا، لكن تم غضّ الطرف عن منطقة أخرى لها مكانة خاصة لدى موسكو وهي القوقاز.
وتصاعدت في الأيام الأخيرة الأعمال العدائية العسكرية بين أرمينيا وأذربيجان على طول حدودهما المشتركة وذلك بعد أكثر من عام من توقف القتال تماما على نطاق واسع بين البلدين. كما عقد مبعوثون من أرمينيا وتركيا جولة أولى من محادثات، في الرابع عشر من يناير في موسكو، بشأن التطبيع السياسي في المنطقة وإعادة معايرة مشهدها السياسي والأمني. وفي المقابل، مثّل نزاع قره باغ خلفية استراتيجية ومهمة للأحداث الجارية حاليا في أوكرانيا وكازاخستان.
ويرى يوجين تشوسوفسكي وهو زميل غير مقيم في معهد نيولاينز أنه “قد يكون للانتشار العسكري الروسي في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي أسباب ودوافع مختلفة، ولكن لكل منها في جذوره هدف مباشر إلى حدّ ما بالنسبة إلى موسكو: ترسيخ نفوذها كقوة خارجية مهيمنة في المنطقة ومنع تأثير القوى الخارجية الأخرى أو الحدّ منه. فعلى سبيل المثال، وفي حالة التدخل الروسي في أوكرانيا في 2014، كان الهدف هو الحدّ من نفوذ الغرب، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، في أعقاب ثورة موالية للغرب في كييف. وتكرر الأمر بالنسبة إلى تدخل روسيا في جورجيا في 2008، الذي جاء بعد أشهر فقط من الاعتراف بتطلعات انضمام جورجيا وأوكرانيا في قمة بوخارست”.

يوجين تشوسوفسكي: الأحداث كشفت عن قيود أمام نفوذ روسيا في القوقاز
وكان تدخُّل موسكو في نزاع قره باغ في 2020 يهدف إلى وقف موجة الخسائر الإقليمية التي تكبدتها حليفة روسيا وزميلتها أرمينيا العضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي على يد أذربيجان، التي كانت أكثر استقلالية وليست حليفة مؤسسية. لكن طريقة التدخل الروسي وتوقيته كان لهما أيضا عناصر من المصلحة الذاتية، مما مكّن موسكو من الحفاظ على العلاقات مع كل من باكو ويريفان.
وكان الهدف من التدخل هو الحدّ من نفوذ تركيا أيضا، حيث أثبت دعمها الأمني لأذربيجان عبر الأسلحة بما في ذلك طائرات تي.بي 2 دورا محوريا في مساعدة قوات البلاد على اختراق الدفاعات الأرمنية. وهكذا، تدخلت روسيا كوسيط للإشراف على وقف إطلاق النار ونقل الأراضي في قره باغ وما حولها من أرمينيا إلى أذربيجان، وهو الأمر الذي كان قبوله مؤلما بالنسبة إلى يريفان ولكنه في الوقت نفسه كان أقل بكثير مما كانت ستواجهه القوات الأرمنية لولا ذلك.
واتفقت كل من أرمينيا وأذربيجان على الهدنة التي توسطت فيها موسكو، والتي تضمّن تنفيذها نشر ألفي جندي حفظ سلام روسي في نوفمبر 2020.
وقال يوجين تشوسوفسكي في تقرير لمجلة فورين بوليسي أن “الصراع بشأن قره باغ سلط الضوء على مكانة روسيا بصفتها قوة إقليمية وقدرة موسكو المستمرة على تشكيل الأحداث، لكنه كشف أيضا أن لنفوذ موسكو حدوده. حيث كانت النتيجة المفضلة لروسيا هي الوضع الراهن قبل الحرب، لكن أذربيجان، جنبا إلى جنب مع حليفتها تركيا، كانت قادرة على تحدي هذا الوضع الراهن بقوة. وزاد هذا التحدي بشكل كبير من مكانة أنقرة في المنطقة، حيث وافقت موسكو على مركز مراقبة روسي تركي مشترك للإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار ولم يكن أمام روسيا خيار سوى الاعتراف لتركيا بدور قوة إقليمية مهم”.
وتابع بأن “العام الماضي كشف عن قيود رئيسية أمام نفوذ روسيا في المنطقة. فعلى الرغم من وجود قوات حفظ السلام الروسية في قره باغ، انتهكت القوات الأرمنية والأذرية وقف إطلاق النار بشكل دوري وأحيانا مميت. وتمكنت تركيا من الاستفادة من نفوذها المتزايد لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، وعلى الأخص في دعمها لمبادرات النقل والبنية التحتية الإقليمية لأذربيجان وتواصلها الدبلوماسي مع أرمينيا لاستئناف التجارة والرحلات الجوية، وإحياء عملية التطبيع السياسي الخاملة منذ فترة طويلة”.
وتلعب روسيا دورا مهما في كل هذه المناقشات، لكن موسكو لم تعد الفاعل الرئيسي الوحيد في تشكيل الجغرافيا السياسية في القوقاز بحسب تشوسوفسكي، مشيرا إلى أنه في حين أن الوجود العسكري الروسي في المنطقة خفف من حدة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، إلا أنه لم يكن كافيا لمنع اندلاع العنف أو تحقيق سلام دائم. كما أثبتت تركيا استعدادها وقدرتها على تحدي روسيا بشكل مباشر في المنطقة، حتى مع تعاون البلدين في مجالات أخرى مثل مبيعات الطاقة والأسلحة. كما أصبح العالم متعدد الأقطاب، مما يمكن أن يكون بمثابة فائدة وتحدّ للقوى الراسخة، بما في ذلك موسكو.
وتُحيل هذه الاستنتاجات إلى الأحداث الجارية في أوكرانيا وكازاخستان؛ ففي الحالة الأوكرانية، لا تزال روسيا تحاول دفع النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني الغربي إلى التراجع، بينما تسعى إلى الحصول على ضمانات ضد احتمالات توسع الناتو الذي كافحت من أجل تجنبه. وفي كازاخستان، تبدو روسيا أقل قلقا بشأن الغرب، لكنها قد ترى أن وضعها كقوة خارجية مهيمنة يفسح المجال للآخرين، بما في ذلك الصين وربما حتى تركيا.

وبينما أنشأت روسيا تقسيما عمليا للعمل مع الصين في آسيا الوسطى. ولا تستطيع موسكو التأكد من أن هذا الترتيب سيستمر إلى الأبد. ويمكن أن تكون روسيا أقل ثقة في نوايا تركيا، بالنظر إلى أن الجانبين كانا على طرفي النزاع في مناطق مثل سوريا وليبيا، وأن طائرات تي.بي 2 التركية تُباع الآن إلى دول مثل أوكرانيا وقيرغيزستان.
وبالتالي، هناك علاقة أوسع بين ما يحدث في القوقاز والأحداث التي تتكشف في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. يجد الكرملين أن مركزه المهيمن في محيط الاتحاد السوفيتي السابق يتعرض لتحديات من عدة اتجاهات، كما أن نشر روسيا لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في كازاخستان ومناوراتها العسكرية على طول الحدود الأوكرانية تهدف إلى إظهار أن موسكو قادرة وراغبة في استخدام القوة العسكرية للحفاظ على بقائها قوة إقليمية مهيمنة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي.
ومع ذلك، رأى تشوسوفسكي أنه يتعين على روسيا أن تعتبر أن نشر منظمة معاهدة الأمن الجماعي في كازاخستان قد يشكل سابقة خطيرة، لأن الدول الأعضاء الأخرى مثل أرمينيا ليست غريبة عن الاحتجاجات والاضطرابات الجماهيرية موضحا “على سبيل المثال، إذا اندلعت مظاهرات عنيفة في أرمينيا في المستقبل، فهل سيتعين على روسيا التدخل مرة أخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل من المؤكد أن مثل هذا التدخل سينجح؟ يمكن أن تصبح مثل هذه الأسئلة ذات صلة بشكل متزايد باستمرار أرمينيا وأذربيجان في التصادم وتطلع تركيا وغيرها إلى توسيع موقعها في المنطقة. وقد يثبت قريبا أن منطقة القوقاز ليست أقل ديناميكية وتأثيرا من أوروبا الشرقية أو آسيا الوسطى، سواء بالنسبة إلى روسيا أو القوى التي تتنازع معها”.