ما الذي يعاب على كاتب أن يلتقي قرّاءه المفترضين

حفلات توقيع الكتب من قبل مؤلفيها في المعارض المتخصّصة وغيرها من المناسبات العامة والخاصة، هي تقاليد باتت لا غنى عنها، وتزيد من وشائج العلاقة بين الكاتب والقارئ، وكذلك التعريف بالناشر أو الوسيط، في علاقة تختصر المسافة بين المنتج والمستهلك، وترسي تقاليد حميدة للاحتفاء بالكتاب كعنوان للمعرفة ومفتاح نحو بناء الحضارة الإنسانية البعيدة عن أنماط الاستهلاك الرخيصة. أما الغريب فإن هذا التقليد يتعرّض للانتقاد من قبل الذين يظنون أن هذه الاحتفاليات تخصّ الكليبات الغنائية وحدها.
ما الذي يدعو إلى انتقاد احتفالية صغيرة، وفقيرة كتوقيع كتاب في معرض للكتاب، يقام مرة كل عام، دون ضجّة وأضواء وكاميرات، وفي غير إيقاع وصخب كتلك التي تحدث في حفلات الغناء الرخيص، مثل هذا النقد والازدراء؟
ما الذي يعيب على ناشر مغامر ألا يستكثر على كاتب مجازف لقاءه بجمهوره المتواضع في جناح قصي، ويشكر، في كلمات بسيطة ومقتضبة، قرّاءه المفترضين، وبمبلغ مالي لا يكفي ثمن الورق والحبر، والجهد الذي بذله من أجل لحظة اللقاء تلك؟

وليد أحمد الفرشيشي: حفلات التوقيع، هي مناسبات للمرح ما أمكن.. فدعونا نفرح أرجوكم
قمع الكاتب
يبدو أنّ هذا ضرب من حمد التقاليد المستوردة من العالم الغربي، وأكثرها نبلا، في أمة “اقرأ” التي لا تقرأ.. ومع ذلك يُتهم أصحابها بالبدعة والخروج عن المألوف.
أي تقاليد هذه التي تستكثر على كاتب يلتقي بقرائه، يصافحهم، يبتسم في وجوههم، ويقولون له شكرا كأضعف الإيمان. هل يعتقد بعضهم أنّ الأمر مكلف، وتختفي خلفه حسابات تسويقية كتلك التي تحدث في حفلات لتوقيع ألبومات الأغاني والكليبات التافهة؟
رفقا بالذين يسهرون أنّات الليل ووضح النهار في سبيل الكتابة، وما أدراك من الكتابة، التي تذيب الأعمار يا معشر الحاسدين على ما لا تحسد عقباه.. يكفي أن الكتاب لا يكتبه أحد غيره، ولا يقرأه أحد غيره في العالم العربي.
وفي هذا الصدد، يكتب الكاتب والمترجم التونسي وليد أحمد الفرشيشي على مدونته وعلى معرض تونس الدولي للكتاب رسالة ساخرة مفادها أن نصيب الكاتب يشبه ركلة بغل لأمه، مذكّرا أن من حق كل كاتب وناشر أن يروّج لإصدار جديد.
ويشير الفرشيشي إلى أن الكاتب التونسي هو الوحيد “المقموع إعلاميا واجتماعيا..”، ثم إن من حقّه أن يفرح بكتابه، مضيقا أنه، وفي حفل التوقيع، لا ينبغي أن نفهم أن الكاتب يبحث عن الأموال وإنما يسعى للإحساس بأهمية إنتاجه.. وأنه ينبغي أن يصل لأكبر جمهور ممكن.. وهو الفقير بطبعه وبحكم مهنته.
ويختتم الفرشيشي تدوينته بأن الغاية من حفلات التوقيع هي مناسبات للمرح ما أمكن.. “فدعونا نفرح ما أمكن لنا ذلك.. أرجوكم”.
هذه التدوينة التي خطّها الكاتب التونسي على صفحته تكشف مدى الجحود الذي يعاني منه الكاتب مقارنة بفناني وفنانات الغناء والرقص والتمثيل في المهرجانات، وعلى مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي.
أول مظاهر هذا التهميش هو أن الكتابة بالنسبة إلى هؤلاء المستهترين بها، تشبه “شغل من لا شغل له” ثم أنّ ممتهنيها جماعة من “الزائدين على الحاجة”، حتى أن أسماءهم تكاد تغيب عن شارات الكليبات والأغاني والأفلام والسلاسل التلفزيونية.
جسر تواصل

محمود أحمد جدوع: يجب أن تكون هناك فلترة أمينة ووطنية على بعض حفلات توقيع الكتب
مهرجانات الكتاب لا يمكن لها أن تضاهي مهرجانات الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية، ذلك أنها تريد الاحتفاء بمن لا يريد الناس الاحتفاء بهم.. مثل كل الشعوب التي لا تريد أن تقرأ، وتكتفي بالمسوّق من المواد المصوّرة والمغنّاة.
أمّا الجانب الأكثر غرابة و”فجائعية”، والذي يسحب البساط من تحت من ينبغي تكريمهم، فهو “تكريم من لا ينبغي تكريمه”.. وهنا “تضيع الطاسة” كما يقال، ويختلط الحابل بالنابل، ففي مهرجان شرم الشيخ للمسرح الشبابي مثلا، تكدّس برنامج المحور الفكري بالكثير من الفعاليات إلى حد التخمة، ممّا أثار حفيظة المخرج عصام السيد، الذي أشار في إحدى الندوات إلى مبالغة هذه الممارسة؛ خمس حفلات توقيع وخمس ندوات، بالإضافة إلى تسعة مؤتمرات صحافية، وعشر مطبوعات لم تتسنّ إتاحتها جميعا؛ بداية من الكتاب التذكاري للمهرجان الذي يوثّق الدورات الخمس السابقة، وقد خصّصت ندوة لتوقيع ومناقشة الكتاب دون توفّر الكتاب نفسه بسبب تأخّره في المطابع، فما كان من رئيس المهرجان سوى تكريس الندوة للحديث عن تجربته الشخصية خلال السنوات الماضية.
وفي المقابل، فإن معارض أخرى للكتاب قد “احترمت نفسها”، وموقّعيها من الكتّاب ومقتني الكتاب، مثل معرض تونس الذي كان من أبرز خصوصياته هذا العام، الاحتفاء بالمخطوط كمحمل مهم للثقافة والحضارة والهوية.
وقد اختارت الهيئة المديرة “المخطوط الموريتاني” محورا للجلسات الفكرية التي تطّرقت، خلال أيام المعرض، إلى تاريخ الكتابة والكتاب. وفي هذا السياق دعت إدارة المعرض عددا من المفكّرين إلى الانعطاف على هذه “البضاعة النفيسة”، بالنظر والتأمّل، كما تقول الهيئة المشرفة والمديرة لهذا المعرض العربي الهام والمميّز.
وتبقى الفكرة الأساس في أن الغاية من إقامة حفلات التوقيع في المعارض العربية للكتاب ليست الدعاية والترويح كما يخطر ببال الذين لا يعلمون بأن الكتاب في العالم العربي من أكسد البضائع، أقلها ربحا وأكثرها خسارة، وإنما إقامة الدليل على أنّ “التوقيع” هو الاحتفاء باللقاء والتخاطب بين الكاتب والمقتني، والناشر بينهما، في عصر القطيعة بين الورق المطبوع ومقتنيه ممّن لا يزالون يحبّون القراءة.
حفلات توقيع الكتب، همزة وصل بين المؤلف والقارئ، من شأنها أن تمدّ الجسور وتزيد من تلك الألفة منذ الصفحة ما قبل الأولى بين الكتاب وقارئه.. فما أروع أن يقول لك كاتب “شكرا لأنك تقرأني في عصر الجحود والنكران”.
صحيح أنّ حفلات التوقيع قد أخذت طابعا استعراضيا، وتستفيد منها شركات راعية لا تهتمّ بالمنتج بقدر ما تهتمّ بالتسويق الإعلاني، وإن كان تافها وعديم الفائدة، وصحيح أن العولمة قد ركبت على كل شيء، لكن الكتاب، أي كتاب، يظل نفيسا إلى أن يأتي ما يخالف ذلك، حتى وإن كان محتواه يدعو للاشمئزاز والنفور.
وفي هذا الصدد كتب المدوّن السوري محمود أحمد جدوع على صحيفته الإلكترونية منتقدا تهافت الكتاب الهواة من الشباب والشابات على حفلات التوقيع “يجب أن تكون هناك ‘فلترة’ أمينة ومخلصة ومسؤولة ووطنية”، مضيفا أن “الشأن الثقافي ليس شأنا وظيفيّا، قضيّة الثقافة هي قضيّة أمانة ومسؤوليّة مجتمع. ويجب الانتقال من مرحلة مسؤولية الوظيفة إلى مرحلة المسؤولية الوطنية، وكلّ في اختصاصه”. صفوة القول أنّ الخطأ المنشور خير من الصواب المهجور، أي أن إقامة مثل هذه الاحتفالات على عللها، خير من عدم إقامتها على الإطلاق.
