مارد القبائل الليبية سلاح القاهرة لدحر أنقرة

مجلس مشايخ وأعيان ليبيا يدعم خطوات مصر التي تتسلح في هذه الخطوة بتاريخ طويل من العلاقات والمصاهرات مع ليبيا.
الثلاثاء 2020/06/23
دور مفصلي على عاتق القبائل

بالتزامن مع ما تروجه أنقرة لانتصارات عسكرية حققتها في الأشهر الأخيرة حكومة الوفاق في ليبيا، دخلت عوامل جديدة بإمكانها أن تقلب الطاولة وتعيد ترتيب موازين القوى. وفي هذا السياق جاء إعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي ترك الباب مفتوحا للتدخل العسكري في ليبيا. دور مصري يراهن على دور القبائل التي ثمّنت الخطوة كونها ترفض أي غزو تركي لبلدها الغارق منذ قرابة عقد في فوضى الميليشيات.

القاهرة – لم يلتفت كثيرون خارج ليبيا للدور الوازن والمهم الذي يمكن أن تقوم به القبائل في الأزمة التي تعصف ببلدهم، ربما تجاهلها البعض عن قصد أو جهل، لكنها في النهاية سوف تصبح ورقة محورية في كثير من التفاعلات على الساحة الليبية.

ومرجح أن تقوم القبائل بدور مفصلي في التطورات المقبلة، وبدأت علامات دورها تتجلى خلال الأيام الماضية، وهناك المزيد الذي ينتظرها الفترة المقبلة، فقد وجدت أن الصمت أكثر من اللازم ستكون عواقبه أشد وطأة.

رفض الغزو التركي

أعلن مجلس مشايخ وأعيان ليبيا الأحد بعد إعلان سابق لمشايخ قبائل ترهونة، تثمينه لدور القاهرة في الأزمة، وأكد دعمه لخطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي ألقاه السبت في المنطقة العسكرية الغربية، بحضور عدد من ممثلي مشايخ القبائل الليبية، بشأن آليات التعامل مع الأزمة والخطوط الحمر التي رسمها على الأرض، وبدا من خطاب السيسي ورد فعل مجلس أعيان ليبيا وقبائل ترهونة وغيرهم أنهم مفعمون بالرسائل السياسية والعسكرية، وعلى درجة عالية من الانسجام في رفض التوجهات التركية.

ويشير استعداد مصر لتسليح وتدريب شباب القبائل إلى اعترافها بالدور الحيوي الذي يمكن أن يقوم به هؤلاء لاحقا، ومدى قدرتهم على تغيير الكثير من المواقف التي حاولت إخراجهم من المشهد العام في طرابلس، وتصوير الأمر على أنه مستقر في يد التحالف الذي تقوده تركيا، ويتكون من موزاييك عسكري ألوانه الرئيسية مستوردة من الخارج بالكامل.

 ولذلك لا تعرف المعاني التي تنطلق منها القبائل، أو تلتزم بمجموعة من الثوابت والمحددات حافظت على وجودها طوال الوقت في قلب المعادلة الليبية، ومكنت العقيد الليبي الراحل معمر القذافي من الاستمرار في السلطة لأربعة عقود متواصلة، حيث وضع رزمة من التوازنات مكنته في النهاية من الاستمرار ومواجهة عواصف مريرة.

رغم الضجيج العسكري التركي في ليبيا، أنقرة لم تتحدث عن القبائل لأنها تعلم أنها ترفض دورها

تريد القاهرة أن ترفع الغطاء عن حكومة الوفاق ودور العناصر الأجنبية التي تقاتل معها، وتثبت أن تركيا تعمل بمساعدة جماعات غير ليبية وغير شرعية، وجاءت لتغزو وتحتل وتمعن في تفكيك الروابط الاجتماعية للدولة، بينما مصر تستند على عناصر وطنية تنتمي إلى القبائل المعروفة بالولاء للوطن والإخلاص له، وعندما تقوم بالتنسيق والتعاون مع مصر فهي تدافع عن مصالح وطنها أولا.

تتسلح مصر في هذه الخطوة بتاريخ طويل من العلاقات والمصاهرات مع ليبيا، فهناك الملايين من ذوي الجذور المشتركة، يعيشون على الجانبين، وهناك من استقروا هنا أو هناك منذ عشرات السنين، بل أيضا إن هناك مسؤولين كبارا في مصر ينحدرون من ليبيا والعكس صحيح، ناهيك عن التمازج الثقافي، والدور الذي قامت به القاهرة في تأسيس نواة للجيش الليبي منذ عقود، وهو الواقع الذي لا ينكره الكثير من القيادات الوطنية، التي تشربت بالعسكرية المصرية، وجعلتها قريبة من أركانها في الشرق والغرب.

مخطئ من يعتقد أن الحضور المصري يقتصر على الشرق، بل هو ممتد إلى الغرب والجنوب أيضا، والتحركات التي جرى القيام بها في أوقات عدة لم تفرق بين القبائل على هذه المستويات، وكانت دوما هناك رؤية رددها مسؤولون في مصر لشريحة من الليبيين أن القبائل هي صمام الأمان والورقة التي تستطيع مناطحة كل الأوراق الأخرى، فهي موجودة في المؤسسة العسكرية وعلى جوانب السياسة الممتدة.

انتبهت القاهرة للقبائل مبكرا لهذه الزوايا المتشابكة، وتعاملت معها وراعت المكونات الاجتماعية وخصوصيتها في ليبيا، وهي نقطة تميز عن الخصوم القاهرة الذين أنكروها، لأنهم لا يعرفون جيدا دورها المؤثر في الأحداث التاريخية، وحاولوا تشكيل واقع اجتماعي يبعد عنها بقدر الإمكان، فعدد كبير من المنتمين لحكومة الوفاق والمستثمرين في الميليشيات المسلحة بعيدون عن فكرة الثوابت القبلية التي تستند على أعراف وتقاليد ومقومات يصعب التنصل منها، وعملوا على تهميشها والنأي عن توظيفها بصورة إيجابية.

ثورة آتية

صمت صوت القبائل في بعض الأحيان، تجنبا للدخول في مناوشات لا طائل منها، وقد تستنزف قوتها، وتحاشيا لمزيد من الفتنة، وثقة في أن المفاتيح التي تمتلكها ستجبر القوى المنخرطة في الصراع على اللجوء إليها، لأن غالبية هذه القوى بلا وزن اجتماعي حقيقي، ويغضبها التعويل كثيرا على القبائل، وفشلت في الاستفادة منها جيدا على مدار محطات الصراع، فالقبائل العريقة تعرف جغرافيا وسياسة ليبيا، وتعرف العوامل التي تؤثر فيها وتلك التي تستطيع الحسم في لحظات معينة.

يقع على عاتق القبائل الدور المهم في الحفاظ على الجسم الرئيس للمؤسسة العسكرية، والحفاظ على الثروات النفطية والغازية التي تقع معظمها في الأراضي التي تقطن فيها، ربما تشتت أو تشرد البعض من الأفراد، غير أن الغالبية لا تزال قابضة على جمر القبيلة التي حاولت الميليشيات المسلحة والإرهابيين جرها إلى مستنقعاتهم وتفتيت وحدتهم التقليدية.

لدى العدد الكبير من القبائل الليبية توصيفات دقيقة للأزمة، ومعلومات موثقة عن الجرائم التي ارتكبت وأين ومتى ومن خططوا ومن نفذوا ولماذا؟ وتجر السلسلة معها ملفات تصل إلى درجة أن هناك قوائم تتضمن أسماء من أقدموا على التصفيات والمجازر الجماعية والفردية في مناطق مختلفة، انتظارا ليوم يتعين فيه الحساب، وفقا للأعراف، فالمسألة دقيقة وعميقة، ويصعب مرورها، وإن كان يلفها الصمت الآن فهذا لأسباب تكتيكية، وهي من الجرائم التي لن تسقط بالتقادم.

الحفاظ على الجسم الرئيس للمؤسسة العسكرية يقع على عاتق القبائل
الحفاظ على الجسم الرئيس للمؤسسة العسكرية يقع على عاتق القبائل

مع كل الضجيج العسكري والسياسي والاقتصادي التركي في ليبيا، لم تتحدث أنقرة كثيرا عن القبائل أو مع القوى المركزية فيها، لأنها تعلم أنها ترفض دورها، ولديها تحفظات كبيرة على من مهدوا الأرض لاستدعائها، قد تكون هناك صلة بين بعض القبائل وحكومة الوفاق في طرابلس، لكنها تقوم على جملة من المصالح المؤقتة ولم ترق إلى مستوى التحالف السياسي.

تعمدت حكومة السراج والتحالف الميليشياوي الواسع الذي تضمه توسيع نطاق الخروقات في الجسم القبائلي في ليبيا، غير أنهم لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم، إلا في الحدود الدنيا، وبقيت السبيكة الكبيرة المؤثرة محافظة على قوامها، قد تكون هناك عناصر انضمت للوفاق على أساس انتهازي، غير أنها بقيت ملفوظة من مجتمعها، والذي يستعد للقيام بتحركات قادرة على تغيير الموازين.

حاولت قطر وتركيا والإخوان استقطاب عناصر قبلية تقوم بدور التشويش على التحركات المصرية، ورتبوا لقاءات محدودة للبعض، وأغروا آخرين بتقاسم شيء من النفوذ، لكنهم لم يتمكنوا من تحقيق أغراضهم، وعملوا بعيدا عنهم، ولجأوا إلى عناصر قبلية لديها استعداد للتعاون مضطرة، أو ساعية للحصول على مكاسب لحظية، أو لتحاشي مشكلات جهوية.

في كل الأحوال لم يكن دور القبيلة مثمنا لدى تركيا وأعوانها، وتدخلها السافر ينطوي على رغبة تعمل على تآكل هذا الدور في المستقبل، لأنه سوف يظل شوكة في حلقها، وما لم يتم كسرها لن تقوم لها قائمة في ليبيا، وجزء من تفسير اللجوء إلى المرتزقة نزع الدسم الذي تحمله القبائل في الحل والعقد، وإعادة تبويب الخارطة المجتمعية دون هذا المكون.

7