ماذا تأكل.. الهوية الشخصية والمجتمعية في طبق

الطعام مقياس لمستوى الوجاهة الاجتماعية والذوق العام.
السبت 2020/11/14
تفكير في الطعام خارج نطاق الروتين

هل توقّفت مرة وتساءلت عمّا تأكل؟ ماذا تأكل؟ كيف تأكل؟ أين تأكل؟ متى تأكل؟ هل فكّرت أن لذلك تأثيرا أو انعكاسا على شخصيتك؟ هل أن سلوكيات الطعام لها أثر على حياتنا؟ وغيرها من التفاصيل الصغيرة المتعلقة بطعامنا اليوميّ، جميعها تصطف جنبا إلى جنب عاكسة جزءا من الهوية الشخصية والمجتمعية الأصيلة.

تونس - يمثل الطعام أكثر من مجرد مصدر رئيسي للعناصر الغذائية، فهو عنصر أساسي من عناصر الثقافة وركيزة هامة للشعور بالهوية التي تعرّف على أنها صيغة اجتماعية تتسم بالديناميكية، تتشكل ويعاد تشكيلها وفقا لأطر اجتماعية محددة لتعكس الخبرات المعيشية ضمنها، وتحتوي على التأثيرات الفردية، الثقافية، التاريخية، الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل في النهاية الخيارات الغذائية.

ويؤدي التغيير في الخيارات الغذائية عادة إلى تغيير في المفاهيم والممارسات الثقافية الأوسع.

الكسكسي والعولمة

لطبق الكسكسي مكانة خاصة عند التونسيين
لطبق الكسكسي مكانة خاصة عند التونسيين

يعد الطبخ جزءا هاما من ثقافة الشعوب ومؤشرا على هويتها، ولبعض الأطباق وقع خاص لدى التونسيين. ومن بين هذه الأطباق الكسكسي.

يقول سالم (40 سنة)، الذي يصحب ابنته ذات الأربع سنوات كل يوم أحد لمطعم لتناول طبق بيتزا لأن زوجته تعمل كل يوم أحد، “أتذكر تلك الأيام السعيدة في الماضي عندما كانت وجبة الغداء في يوم الأحد طبقا من الكسكسي يستغرق إعداده ساعتين ويؤكل ساخنا، كانت أغلبية العائلات التونسية تتناول الكسكسي يوم الأحد”.

ويضيف تفرقت العائلة ولا يوجد من يأكل الكسكسي الآن في منزل العائلة، رغم ذلك مازالت عائلات تونسية تحافظ على هذا التقليد الغذائي يوم الأحد كما تحافظ على غيره من التقاليد الغذائية في مناسبات اجتماعية ودينية مختلفة.

وعند الاجتماع على مائدة الطعام، يقترب الناس من بعضهم البعض، فالأسرة تجتمع كاملة وقت الطعام، ورجال الأعمال يعقدون صفقاتهم على موائد الطعام، ورؤساء الدول يحيّون بعضهم البعض بالموائد الفاخرة، وفي بلاد الشرق يقسمون بأكل العيش والملح.

وكشفت دراسة حديثة عن تأثير واضح لتناول الطعام بصحبة آخرين، وانعكاس ذلك على كمية الطعام التي يستهلكها الإنسان. ويمكن أن يرتفع استهلاك الغذاء بنسبة 50 في المئة تقريبا، عند يتناول الفرد وجبة مع العائلة أو الأصدقاء، وذلك بالمقارنة مع الأكل وحيدا. واكتشفت الدراسة أن الأكل مع آخرين “أكثر متعة” من الأكل المنفرد، مما يشير إلى أن مراكز المخ تشجّع الناس على الاستمرار في الفعل ذاته، وبالتالي التهام طعام أكثر. وعند تناول الطعام بصحبة غرباء أو أشخاص لا نحبهم، فإن التأثير كان مختلفا بوضوح، عما تم شرحه سابقا.

لكن التغيرات والتأثيرات السريعة التي أحدثتها العولمة طالت كل مكان وجعلت العالم قرية كونية صغيرة. وبما أن العولمة ليست فقط تجارة مواد ورؤوس أموال وإنما أيضا تجارة أفكار وأّذواق، فإنها تمثل التهديد الأساسي للثقافات المحلية لأنها تعمل على خلق “ثقافة كونية موحدة”.

وتسود في الفترة الحالية ثقافة الانشغال والتنقل المستمر، ولذلك فمن الطبيعي أن 4 من كل 10 مستهلكين في المدن الكبرى يقرون بأن أي طعام يمكن اعتباره وجبة خفيفة.

وبات الأشخاص يفكرون في الطعام‏‏ خارج نطاق الروتين القديم لوجبات الإفطار والغداء والعشاء، ما زاد الإقبال على تناول الوجبات الخفيفة مقارنة بعادات تناول الطعام التقليدية وقد ترتبت على ذلك مرونة كبيرة في أوقات تناول الوجبات. وبسبب تأثير أنماط حياة الأشخاص وأولوياتهم، يفضل المستهلكون بنسبة 63 في المئة تناول الوجبات الخفيفة بدلا من الوجبات التقليدية بينما اختار 84 في المئة تناول الوجبات الخفيفة بين الوجبات.‏ ‏لكن الأمر لا يقتصر على كيفية إقبال الأشخاص على الوجبات الخفيفة، إذ يجب أيضا التركيز على المعاني التي يجسدها الإقبال على الوجبات الخفيفة.

"البيتزا" تعتبر من أطعمة العولمة بامتياز، التي يتهافت عليها الناس في كل الأماكن
"البيتزا" تعتبر من أطعمة العولمة بامتياز، التي يتهافت عليها الناس في كل الأماكن

وفي مقال نشرته مجلة الطب الوقائي الأميركية قال الباحثون “بعد أن أصبحت الأمراض التي تتعلق بالجهاز الهضمي من أكثر المشاكل التي تواجه الإنسان في عصر السرعة، بات من الضروري على الأطباء تقديم النصائح الصحيحة للناس لتحسين نظامهم الغذائي”.

وأوضحوا “لقد أشارت الأرقام إلى أن مؤشرات الصحة لدى الذين يتناولون الطعام الصحي في المنزل 3 مرات أسبوعيا كانت قريبة من 67 في المئة، أما الذين يتناولون طعامهم في المنزل 6 مرات أسبوعيا فمؤشرات الصحة لديهم كانت قريبة من 75 في المئة”.

وأشار العلماء إلى أن تلك الدراسات بيّنت أيضا مضار الأطعمة الجاهزة والوجبات السريعة على الصحة، وآثارها على القلب والشرايين.

وقد لا يكون تأثير العولمة مباشرا على المطبخ التقليدي ولكن نتيجة الانفتاح وتحول المواد الأساسية (الزراعية والاستهلاكية) في المطابخ التقليدية وتبعها بالتالي تحول في أصناف الطعام أيضا. ففي المنزل حيث ما زالت تحفظ بقايا أطباق محلية من وقت لآخر بدأت الأطباق المستوردة تحل محلها أما في المطاعم فنادرا ما توجد قائمة طعام أطباقها محلية صرف.

ولا بد هنا من ذكر مثال “البيتزا” التي تعتبر من أطعمة العولمة بامتياز، التي يتهافت عليها الناس في كل الأماكن.

وبالنسبة إلى سالم فهو لا يحبذ البيتزا كما تحضرها ابنته، لكنه يظل وفيّا لطبق “الصحن التونسي” الذي يعد أحد أشهر الوجبات في تونس، ليس فقط لأنه يضرب في أعماق التاريخ، لكن أيضا لمكوناته الغذائية المتكاملة.

والبعض يعتبره خلطة غريبة فيما يرى البعض الآخر في مكوناتِه انعكاسًا لتنوع التونسيين.

ويتكون “الصحن التونسي” من السلطات التقليدية الشهيرة والتي لا تكتمل دونها الموائد وأبرزها “الحورية” و”السلطة المشوية”، و”السلطة التونسية”. وتضاف إليها بيضة نصف مسلوقة مع التونة التي كانت تعد سابقا في المنازل، قبل الاعتماد على المعلبة.

وتشمل الوجبة كذلك زيت الزيتون، إلى جانب الخضراوات الطازجة، وهو ما يجعل منها وجبة متكاملة تحتوي على الكثير من البروتينات والفيتامينات. ولا يكتمل الصحن التونسي دون إضافة “الهريسة” ذات المذاق الحار والتي تعد اختصاصا تونسيا ليس له مثيل في بقية البلدان. وبالعودة إلى تاريخ “الصحن التونسي” وأصوله، يقول الشيف الطّيب بوهدرة، كاتب عام جمعية مهنيي فن الطبخ في تونس (غير حكومية)، “هذا الطّبق ظهر مع مجموعة الأكلات التي كانت تعرض وتباع في الشارع وهي ظاهرة بدأت منذ أوائل القرن الـ16 وأخذت في التّطور شيئا فشيئا لتعرف في ما بعد رواجا كبيرا”. واشتهر “الصحن التونسي” مع يهود تونس الذين امتهنوا “الكسكروتاجية” (بائعو السندويتشات).

ويقول بوهدرة إن هذا الطبق يلخص “عقلية” التونسيين ويعكس هويتهم إلى جانب أطباق أخرى.

وتقول الباحثة التونسية سهام الدبابي الميساوي إن “الطعام قبل أن يتحول إلى صناعة، كان وثيق الصلة بالبناء الرمزي للثقافة الخصوصية”. وتضيف أن “الطعام يعدّ جانب هاما جدا لقياس مستوى المعيشة والقيم الجمالية لمجتمع معين ذلك أن نظام الأكل يعكس بأدواته وأنواعه الثراء النفسي والاجتماعي لهذا المجتمع”.

مسارات تاريخية

دفء عائلي على طاولة الطعام
دفء عائلي على طاولة الطعام

لا تنفصل ثقافات الشعوب في الطعام عن ثقافة المجتمع العامة، فكل مجتمع يحاول تأصيل هويته بانفراده بثقافة طعامه التي تختلف عن الآخرين. كما لا يمكن إنكار علاقة الطعام بثقافة مجتمع وبموارده الطبيعية والتغيرات مع المراحل التاريخية التي تطرأ على المجتمع وذلك بالتأثيرات الخارجية من ثقافات أخرى.

ولعلّ الأمر يصبح أكثر وضوحا حينما يهاجر الأفراد ويحتكّون بالشعوب الأخرى حول العالم، ويقحمون أنفسهم في ثقافاتٍ جديدة، تطلعهم على مدى تنوّع الحضارات واختلاف تقاليدها لهذا يحاول الكثيرون الحفاظ على عاداتهم التقليدية التي شكّلت نمط حياتهم في الطعام في حال سافروا إلى مكانٍ آخر غير وطنهم، بل وعلاوة على ذلك يحاولون إشهاره والحديث عنه ومشاركته مع غيرهم من غير دائرتهم.

ويحوي التاريخ قصصا كثيرة تروي تأثير الطعام على الحضارات، ومن ذلك التوابل على سبيل المثال التي تتبع طرقا شتى في مسار حركتها ومحاولات العثور عليها ونقلها بين دول العالم، وكانت وسيلة للربط بين الحضارات المختلفة من جهة أو لإنشاء بعض الحضارات الجديدة من جهة ثانية.

ومن جانبها، قالت إيدا زيليو غراندي، مديرة المعهد الثقافي الإيطالي في أبوظبي التابع لسفارة إيطاليا لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، إن “هناك ارتباطا واضحا بين تناول الطعام والثقافة، فتناول الطعام مع الآخرين ما هو إلا طريقة بديلة لمشاركة التراث الثقافي”. وأضافت “يتألف الدفء الاجتماعي من مجموعة متفردة من العوامل تشمل المشاركة الجسدية، التمتع الحسي، والتعبير عن الانتماء الثقافي ومشاركة تقاليد الطهي لدى الشعوب؛ فضلا عن الضيافة، أي تقبّل الآخر والاحتفاء به، وهي الأساس لكل تلك العوامل”.

كما لا يقتصر الطعام أو الأكل على القوانين الدنيوية والبشرية وحسب، بل يشقّ طريقه عميقا في الجانب الديني، الذي يلعب بدوره دورا رئيسيا كبيرا في تشكيل الحضارات والمجتمعات. وثقافة الحلال والحرام ميّزت الشعوب المختلفة عن بعضها البعض، فلحم الخنزير مثلا يعدّ محرّما في الحضارات الإسلامية، أما اليهودية فتحتوي على شريعة مخصصة للأكل الحلال تعتمد على الفصل بين منتجات الحليب ومنتجات اللحوم استنادا إلى تفسير تلمودي لنص توراتي.

وبذلك، نستطيع أن نستشف أنّ الطعام لا يصنع الحضارات ويعكس مدى تطوّرها فحسب، بل يساهم في تكوين الهوية الذاتية والمجتمعية للأفراد والتي قد تتأثر في الوقت نفسه بالشعائر والنصوص الدينية التي تعكس بدورها صورة لا يمكن إهمالها أو تجاوزها من صور الحضارات وتاريخ تشكلها.

ومع التغيرات السريعة باتت هناك حاجة ماسة لرفع الوعي وإبراز أهمية التراث المحلي بكل عناصره مهما كانت بسيطة وكذلك ضرورة حفظه بطريقة مناسبة للاستفادة من الفوائد الكامنة من حفظ هذا التراث.

الدولمة عابرة الطوائف

4 من كل 10 مستهلكين  في المدن الكبرى يقرون بأن أي طعام يمكن اعتباره وجبة خفيفة
4 من كل 10 مستهلكين  في المدن الكبرى يقرون بأن أي طعام يمكن اعتباره وجبة خفيفة

في العراق مثلا تتربع “الدولمة” على عرش سفرة الطعام العراقي، وتوصف بأنها أكلة عابرة للطوائف. وتتصدر قائمة مائدة المناسبات والضيوف في كل بيت، فلا منافس لها بين الأطباق الأخرى في بلاد الرافدين، حتى أصبحت سفيرة الأكلات العراقية في الخارج، والتي تحرص أغلب المطاعم العراقية في الخارج على تقديمها كطبق غني بالدسم والخضار والبهارات.

وتتكون الدولمة من أرز متبّل ببهارات عراقية، ويخلط بالخضار المفروم ناعما مع كل من الثوم، البصل، البندورة، والبقدونس، ويضاف إليها اللحم المفروم ومعجون الطماطم. وتُحشى بعد ذلك بورق السلق أو ورق العنب مع مجموعة من الخضار مثل البصل والفلفل والباذنجان، التي تضيف نكهة مميزة، حيث تكون أضلع الغنم أو الباقلاء في قعر قدر الطبخ، مع كمية من الماء والليمون، وتوضع في قدر محكم الإغلاق وتطبخ على نار هادئة، “لتعم بعد ذلك رائحتها الزكية أرجاء المكان”.

وتبدأ الطقوس من طريقة تقديمها، حيث يقلب القدر على صينية مدورة ثم يرفع بعناية لتتوج سفرة الطعام، وهي تعرف كذلك بأنها أكلة عائلية، ومتعة أكلها تكون بتجمع أفراد العائلة حولها.

ومن أشهر الأكلات الشعبية التي تشتهر بها ليبيا، خاصة المناطق الغربية منها، أكلة “البازين” التي يتم تقديمها عادة في الحفلات الكبرى والمناسبات العائلية، فضلا عن تقديمها في معظم أيام رمضان الكريم، حتى أنها لا تكاد تفارق مائدة الليبيين في ذلك الشهر العظيم.

كما تعرف المائدة اليمنية تنوّعا في طعامها وأطباقها الغذائية، بتنوع مدنها ومحافظاتها وتاريخها وحضارتها، إذ أن بعض هذه الأطباق الأكثر أصالة، ترتبط بتاريخ وجغرافيا المدينة التي تنتشر فيها، مثل السلتة التي تتربع على عرش المائدة الصنعانية، كطبق رئيسي لا تكتمل عادة وجبة الغداء دونه.

وتتكون السلتة بصورة أساسية من الحلبة والمرق ويضاف إليها اللحم المفروم أو أنواع مختلفة من الخضار والحبوب مثل البطاطس والأرز.

 نظام الأكل يعكس، بأدواته وأنواعه، الثراء النفسي والاجتماعي لأي مجتمع
 نظام الأكل يعكس، بأدواته وأنواعه، الثراء النفسي والاجتماعي لأي مجتمع
ثقافات الشعوب في الطعام لا تنفصل عن ثقافة المجتمع العامة
ثقافات الشعوب في الطعام لا تنفصل عن ثقافة المجتمع العامة
الطعام يساهم في تكوين الهوية الذاتية والمجتمعية للأفراد
الطعام يساهم في تكوين الهوية الذاتية والمجتمعية للأفراد

 

20