ماتت الصحافة.. عاشت الصحافة

جولة في قطار الأنفاق اللندني تكفي لمعرفة ما آل إليه حال صحافة التابلويد الشعبية في بريطانيا.
في السبعينات وصولا إلى التسعينات نادرا ما كنا نرى راكبا لا يحمل بيده صحيفة دافنا وجهه فيها. وغالبا ما كانت الصحيفة واحدة من ثلاث: الصن، ديلي ميرور وإيفنينغ ستاندرد التي تحولت عام 2009 إلى صحيفة مجانية.
في قمة ازدهارها كانت صحيفة الصن توزع 3.7 مليون نسخة يوميا، وكانت شهرتها مبنية على الصفحة الثالثة التي تنشر صورا لنساء شبه عاريات.
مع عام 2020 هبط توزيع الصن ليصل إلى مليون نسخة يوميا، ومنذ ذلك التاريخ قررت الصحيفة عدم نشر أرقام التوزيع. ولكن ليس صعبا أن نكتشف من خلال جولة في قطار الأنفاق أن عدد التوزيع اليوم أقل من ذلك بكثير.
بوجود الهاتف الذكي من يحتاج إلى صحيفة عرفت بـ”صفحتها الثالثة”؟
ما حدث لصحافة التابلويد في بريطانيا، بتأثير من وسائل الإعلام الرقمي وجائحة كورونا، حدث في كل مكان.
اليوم يدفن ركاب القطارات رؤوسهم في شاشات هواتفهم يقلبون صفحات فيسبوك، إنستغرام، تويتر ويوتيوب. ومع انتشار تشات جي بي تي، بارد وبينع.. يبدو المستقبل قاتما. ولكن، ليس للجميع.
صحيح أن الصحافة الشعبية ماتت أو هي شبه ميتة، ولكن بالمقابل ازدهرت صحافة النخبة.
نبقى في بريطانيا، حيث حافظت صحافة النخبة على مكانتها الورقية، وحققت نجاحا غير مسبوق في نسخها الإلكترونية.
صحيفة ذا تايمز، وهي صحيفة يومية محافظة، ارتفعت نسبة مبيعاتها عام 2020. ما ينطبق على التايمز ينطبق على الغارديان، الليبرالية، التي لم تسع للحفاظ على مكانتها الورقية فقط، بل تبنت إستراتيجية ناجحة ليرتفع عدد مشتركيها الرقميين إلى 900 ألف مشترك عام 2020، أما عدد زوار الموقع فبلغ 300 مليون شهريا.
واستطاعت الديلي ميل، المحافظة، أن تصبح أكبر صحيفة يومية في المملكة المتحدة بنهاية عام 2020، ليقارب متوسط توزيعها مليون نسخة يومية. ما السر في ذلك؟
الصحف المذكورة لا تهتم بنقل الخبر. الأخبار تنتقل بالهواء، وهذا أكثر ما يصدق على واقعنا الحالي.
صحف النخبة اجتازت الأزمة بحرصها على تقديم التحليلات العميقة، والتركيز على صحافة الرأي.
الصحافة التي تطارد السياسيين والمشاهير وصناع القرار لتنقل أخبارهم، لم يعد لها مكان في عالم تشات جي بي تي وربعه. الصحف التي لا يحرص المسؤولون وصناع القرار على الاستنارة بآراء محرريها لا تستحق البقاء.
هل يمكن أن يتخلى القراء يوما عن متابعة فايننشيال تايمز؟ بالتأكيد لا. والدليل أنها تطبع في 24 مدينة حول العالم، ولديها على موقعها ربع مليون مشترك.
حتى لو سرقت التكنولوجيا وظائف المحررين البشر، وهذا ممكن، ستبقى الحاجة إلى إعلام يصنع الحدث.
في النهاية، ستموت الصحافة التي تطارد الخبر. وتبقى وتزدهر الصحافة التي تصنع الخبر.