مئة عام على ميلاد زايد
قبل سنوات قدّم زعيم عربي صورة أخرى للقيادة، غير مألوفة لهذا العالم، الذي كان يضج وقتها بالانقلابات العسكرية التي أفرزت زعماء جددا محملين بالأوسمة والنياشين، وشحنة غضب على الآخرين، وسيول من النعوت والأوصاف لخصومهم.
لكن الزعيم الذي تسلل إلى قلوب الآخرين كان بعيدا عن كل منطق ومظهر للسلطة العارمة والأناشيد والمارشات، كان يعمل بصمت ودأب وإرادة وإيمان، يدرك بأن طريق الصحراء الذي يقطعه بين أبوظبي والعين ودبي وصولا إلى رأس الخيمة يتطلب عملا دؤوبا ليعبّد، وأن البحر الذي يحيط بإماراته السبع التي فرض أن تكون متآخية وموحدة لا بد أن يغمرها بالمحبة، في كل لحظة مدّ وجزر تضرب أراضيه، القاحلة، العطشى التي تنتظر أن يُشمر عن ساعديه ليعمّرها.
كان هذا العربي الصبور يدرك أن طريق البناء ورؤية المستقبل يغلّبان الحكمة على سواها من المعايير، وأن من الشجاعة أن تغير حياة الناس من البداوة وطباعها الصعبة، إلى المدنية بكل إشراقاتها ومباهجها.
ظل يبني ويعمل ويقسّم رغيف الخبز مع أشقائه الستة، ويحاورهم ويُطلعهم ويشركهم، ويبث الأمل فيهم على مآلات التغير المنتظر الذي سيقلب حياتهم وأسرهم وحياة الناس من حولهم، بل ويقلب معادلة التنافس لتحلّ معادلة التفاهم والعمل الدؤوب، بروح الفريق الذي سيصل إلى الأهداف التي خطها على “طبلة رمل” حقيقية، لا تلك التي تضعها الجيوش العربية كخرائط أوصلت بعض البلدان إلى الهاوية، موظّفا الخبرات العالمية والعربية، التي يستقطبها لبناء الدولة الصامتة التي ظلت تسلك طريقا آخر غير صراخ وهياج الأشقاء الكبار، الذين يشاركونه العالم العربي وكان لا يبخل عليهم بالنصح والتروي.
كان يبني كل يوم وينصت للجميع عله يستنبط من بين أفواههم فكرة نافعة، يصغي للناس ويجلب الخبرات الأكفأ في العالم كي تستقيم الدولة الناشئة على فكرة البدء من حيث انتهى العالم، ظل مواكبا مطوّرا لمعيته حانيا عليها، لم يبخل على أحد في العطاء من الرزق الوفير الذي بدأ يتراكم عليه.
تغيرت البلاد سريعا، صارت أنموذحا للدولة العصرية التي تدرك أن العالم لن يقبل أحدا من دون فهم ديناميات التفاعل معه، ومع تطوره، وفتح منافذ الحوار الحضاري والعيش المشترك بسلام، وبعدم الارتياب من الآخر، الذي ظل هاجس الآخرين من غيره وديدنهم ليومنا هذا، تلمسه من لحظة دخولك مطاراتهم وأنت لا تحمل سوى المحبة لهم كأشقاء، أدرك الراحل طيب الذكر أن العالم يحترمك كلما أنجزت، وتعلمت ويشعر بقيمة الشفافية التي تتمتع بها فيزداد تقربا إليك.
الشيخ زايد لم يدرس في جامعاتهم أو معاهدهم، لكنه بفطرة وموهبة القائد الفذ أدرك المعادلة الكونية من قاعدة تماسك الداخل والتفاهم مع أهل بيته في الإمارات السبع، التي قدمت صورة جديدة للدولة الكفؤة بعد الحرب الثانية وكانت الأسرع في تلقف وتوظيف المعطيات العلمية والتكنولوجية والمعمارية، فنهضت بسرعة فائقة، لتكون دولة ناهضة برؤية رجل دولة.