مأساة الصحف المصرية بدأت بضبط إيقاعها على نغمة واحدة

قارئ الصحف المصرية لم يعد يجد اختلافا في عناوين الصفحات الأولى، ولا يعثر على قضاياه في الصفحات الداخلية، بعد أن تخلت الكثير منها عن مهنيتها، وانضمت إلى الجوقة ذات الصوت الواحد الذي لا يطرب أحدا.
الخميس 2018/06/28
شارع الصحافة شاحب

أصدرت مؤسسة طومسون رويترز في القاهرة «دليل أخلاقيات المهنة للصحافيين»، في يونيو 2009، إهداء إلى روح الصحافية المصرية منى مجلي التي توفيت عام 2007. وقد حيرني هذا الدليل الموجز الذي ترجمته إلى العربية نادية الجويلي، ويقع في 52 صفحة صغيرة القطع، وكلما عدت إليه تذكرت دساتير مصرية تشبهه في الإيجاز والمثالية، وتنتظر فرصة الخروج، من النص إلى الممارسة.

يقدم الدليل إلى أولي الألباب النصح، في ما يخص أخلاقيات المهنة، ولا يتخذ دور الواعظ، فيتجنب صيغ “يجب أن” و”ينبغي” و”يُنصح بكذا”، بل يطرح افتراضات حول قضايا إشكالية لا يتبين فيها أحيانا الخيط الأخلاقي الأبيض من الخيط الأسود، ولكنها واجهتك وستواجهك وتزيد حيرتك، ولن تجد لها إجابة قاطعة.

يخاطب الدليل عقلك ويستفزك، ولا يريحك بهدايتك إلى إجابة نموذجية، وإنما يثير الأسئلة ويتركك في مواجهة مع ضميرك، فتحار أكثر، ويتضاعف قلقك، إلا إذا كنت من المطمئنين فاتري الضمير، ولا تجد حرجا في انتقال الولاء من القارئ إلى أولياء النعم، وهؤلاء الأولياء غير الصالحين كثيرون، وينتشرون أفقيا ورأسيا بامتداد خارطة المنافع الصغيرة والكبيرة، المادية والروحية أيضا.

ومن هذه المنافع دعوات الحج والعمرة على نفقة السفارة السعودية في القاهرة، وأحيانا يفخر البعض من المحظيين بأن الدعوة آتية من الحجاز مباشرة. هؤلاء وأولئك يتلقون الدعوة أو يطلبونها باعتبارها هدية، وينسون كيف تنسف المسافة بين الرشوة والهدية، وكان ذلك معروفا في نطاق محدود قبل إتاحة ويكيليكس وثائق عن هبات وابتزازات.

الصحف تخلت عن الإنفاق على مواد تحريرية لو أخلصت لها لاستعادت ثقة الشارع، وحققت الاستقلال المادي

وفي السنوات الأخيرة يعلن المنتفعون عن العطايا، ويتباهون بالإثم، فينشرون صورهم بملابس الإحرام في مطار القاهرة، مع سطور من الشكر والامتنان لولي النعم، ناسين المثل الشعبي البليغ “اطعم الفم تستح العين”، ويتجاوز الأمر بالطبع مسألة الحياء إلى كسر العين، وعطب الروح وانكسارها.

من الأمثلة التي أوردها دليل رويترز لأخلاقيات المهنة، بخصوص علاقة الصحافي بمصادره وبالقارئ: “وافق وزير العمل بشكل غير متوقع على مقابلة عمال مضربين أصابوا العمل بالشلل في مصنع للصلب يقع في مدينة على مسافة 800 كيلومتر من العاصمة. وقبل أربع ساعات من موعد رحلته الجوية، اتصلت بك الوزارة هاتفيا لتقول إنها تعرض على الصحافيين مقاعد على الطائرة. وقالت إن الوزير سيتحدث مع الصحافيين في رحلة العودة. هل تقبل العرض وعلى أي أساس؟”.

ومثال ثان: “تعمل مندوبا لصحيفة في وزارة الداخلية، وأبلغك مسؤول بارز فيها بأنه سيمنحك فرصة الانفراد بسبق صحافي، بإطلاعك على ملف تعده الوزارة عما تقول إنه جرائم ومخالفات ارتكبتها إحدى الجماعات المعارضة. والشرط الوحيد هو ألا تحاول الاتصال بتلك الجماعة للحصول على تعليق منها. ماذا سيكون ردك؟”.

مثال ثالث محير أيضا: “أطلق مطرب مشهور حملة لمنع بيع الخمور للشباب أقل من 21 عاما. اطلعت على محضر للشرطة يكشف عن القبض على فتاة عمرها 19 عاما بتهمة القيادة تحت تأثير الخمر. وعرفت من المحضر أن الفتاة هي ابنة ذلك المغني. هل ستنشر هذه المعلومة؟ وكيف؟”.

مثال رابع: “أتى حريق على منزل أسرة ذات شأن كبير في المدينة وقتل فيه كل أفراد الأسرة. أثناء وجودك في موقع الحدث شاهدت اثنين من مصوري صحيفة منافسة يضعان لعبة طفل أسفل عارضة متفحمة سقطت من سقف المنزل. أنت تعرف جيدا أن هذه الصورة ‘المصطنعة’ ستكون مؤثرة جدا. هل ستلتقط هذه الصورة بما أنك لست طرفا ‘اصطنعها’؟ ما الذي يمكنك عمله؟”.

أكتفي بهذه الأمثلة “الخيالية”، وأفتح عيني لأستوعب كارثية العالم الواقعي، وفيه لا يخجل البعض من جلب الإعلانات لصحيفته، وأحيانا يخص بالإعلانات صحيفة خاصة طمعا في نسبة أكبر، ويشترط عليه المعلن أن ينشر المادة الإعلانية نفسها كتقرير “مهني” في صحيفته الحكومية.

وهناك صحافي مهمته تغطية أنشطة إحدى الجهات، وفي الوقت نفسه يعمل مستشارا إعلاميا لهذه الجهة، مستشارا لا يستشار، فيكاد العمل الوهمي يكون رشوة. ولا يقتصر الأمر على صغار يلتقطون الفتات؛ في ظل ضائقة اقتصادية مزمنة، وإنما يقدم رجال أعمال منحا لرؤساء تحرير صحف رسمية تشمل سفرهم إلى خارج البلاد. فكيف يبالي رئيس التحرير بالقارئ؟ وهل يتعلق استقلال الصحافة بالسلطة وحدها أم أن الأكثر خطورة من التبعية المباشرة هو الارتهان إلى رجال المال؟ وإذا كان الوزير يكسر عين الصحافي بإعطائه مصروف جيب يوميا عندما يصطحبه في سفر، فإن رجل المال “لا يرمي كتاكيت”.

خلال وقت قصير سيتم الإجهاز على ما تبقى من استقلال الصحافة المصرية، وتُستبدل بها منصات فردية تفاعلية متحررة من الرقابة والوصاية، وهي البديل العصري لمأزق صحف ليست لها مجالس تحرير، وإن وجدت فهي لاستيفاء الشكل، وتتحكم في المواد المنشورة الميول والأغراض الشخصية لواحد أحد لا يعنيه إلا قارئا واحدا أحدا، هو رئيس الدولة ومعه أجهزة أمنية يخشى رئيس التحرير أن تستبدل به رئيس تحرير آخر أكثر مهنية وانسحاقا. ويستطيع القارئ أن يجد تفسيرا لانهيار توزيع الصحف المصرية إلى نحو 350 ألف نسخة يوميا.

ارتهان رئيس التحرير إلى رجال المال أكثر خطورة من التبعية المباشرة
ارتهان رئيس التحرير إلى رجال المال أكثر خطورة من التبعية المباشرة 

وحتى وقت قريب، كانت صحيفة واحدة توزع أكثر من هذا الرقم، قبل أن يتم ضبط الإيقاع على نغمة واحدة، فلا يجد القارئ اختلافا في عناوين الصفحات الأولى للصحف، ولا يعثر على قضاياه في الصفحات الداخلية، وليس مصادفة أن تتجنب كافة الصحف مناقشة جدوى تأسيس عاصمة جديدة، في حين لا تخصص هذه المليارات لبناء مصنع أو مشروع إنتاجي؟ كما تخلو الصحف من أي غضب واستياء شعبي بعد رفع أسعار الوقود وقبلها أسعار تذاكر المترو، بطريقة غير آدمية. لا وجود لمعاناة المواطن في صحف تتجنب بالأمر إثارة قضايا مثل مصرية تيران وصنافير منذ التنازل عنهما. هناك صحف ألغت صفحات الرأي تماما، واحتفظت صحف بصفحات للرأي منزوعة الروح، كانت تلك الصفحات تنشر، على استحياء، مقالات لبقايا صقور مخصية استخدمت مؤقتا واجهة للزينة، قبل الاستغناء عنها.

مأساة الصحافة المصرية في تحوّل الصحافيين إلى موظفين رغم وفرة الكفاءات، وفي خلط التحرير بالإعلان، والرأي بالخبر، وعدم إتاحة المعلومات، ونشر أخبار غير موثقة، وعدم الإيمان بالقارئ، والتخلي عن الإنفاق على مواد تحريرية لو أخلصت لها الصحف لاستعادت ثقة الشارع، وحققت الكثير من الاستقلال المادي.

ولأنني بدأت برويترز فسوف أختم بتسجيل تجربة في يناير 2005، حين دعيت إلى مهرجان للمسرح بالإسكندرية، وكانت إدارة المهرجان واضحة في “العرض”، إذ تتحمل إقامة الصحافيين والنقاد والمشاركين، وتعطي كل ضيف مئة جنيه يوميا، لتدبير وجبتي الغداء والعشاء.

 شكرتهم موضحا أن المؤسسة تتكفل بتغطية نفقاتي. كان رد فعلي تلقائيا، قبل معرفة مدونة السلوك المهني الرويتري، وأبلغت رئيس التحرير الأستاذ عصام خلف رحمه الله، وهو من أنبل من تعاملت معهم، فحياني وقال إن رويترز تنفق على مهام محرريها، “سافر، واكتب إذا رأيت عروضا تستحق الاهتمام، واستمتع بوقتك، كل واشرب واسكر، وأبلغنا بإجمالي ما أنفقت”.

لست في حل من ذكر تفاصيل شهودها، من المسؤولين والزملاء، أحياء يرزقون من واسع، بارك الله لهم في الرزق الحلال فقط. وكانت تكلفة اليوم الواحد في مطاعم الأسماك الشهية والسهرات في «بار الشيخ علي» أقل من مئة جنيه. وفي المهرجان عرفت الفنان المغربي متعدد المواهب إدريس الروخ، وتدوم إلى اليوم صداقتنا، وهذا مكسب لا يخصم من التكلفة.

18